2021-12-28 07:34
بهاء الدين سيوف-معهد الجزيرة للإعلام
"للأسف، ترجمتك ليست دقيقة يا عزيزي"، بادرَني بها رئيس تحرير المجلة التي كنت قد قُبِلتُ للعمل فيها أواخر العام 2016، كانت ترجمتي الأولى هناك، والأخيرة! "ليس لك أن تحذف كلمة من النص الأصلي حتى لو لم تكن ذات أهمية، عملُنا هنا ترجمة المقالات وليس تلخيصها!". كانت جملة في النص تقول إن الجمارك رفضت إدخال شحنة من القمح مرة واثنتين وخمسا وعشرا. ترجمتها "مرة وخمسا وعشرا"، حذفت كلمة اثنتين، ولم أقف صامتا، حاولت إقناعه بصحة ترجمتي: "إن كاتب النص صحفي متخصص بالاقتصاد، وهو إسباني، من الطبيعي عند العدّ أن يستحضر أرقام الفئات النقدية في بلاده، يورو واثنين وخمسة وعشرة، أما أنا فاستحضرت الفئات النقدية التي يعرفها من سيقرأ مقالي هنا"، رأيت ملامح الدهشة على وجهه، أظنه تعلم شيئا جديدا آنذاك، وأظنني أفلحت في الترجمة فحسب. أما في الوظيفة تلك فلم أقبض دينارا ولا اثنين ولا خمسة ولا عشرة!
يقول بيتر نيومارك، أحد أبرز مؤسسي دراسات الترجمة في العالم: "إن وظيفة المترجم هي إيصال "الرسالة" التي أرادها كاتب النص الأصلي و"بالإحساس" ذاته"؛ أي إن المعنى وحده لا يكفي. على المترجم أن يتغلغل في صميم الكاتب، بمَ كان يفكر في تلك اللحظة؟ وأي دلالة أراد أن يودعها هذه الكلمات؟ لا ننسى أن طبيعة عمل المترجم تفرض عليه أن يكون رسولا بين أمة وغيرها، بين ثقافة وأخرى بعيدة، فإلى أي مدى هو صعب حمل هذه الرسالة؟
تقوم الترجمة عمليا على خطوتين رئيستين؛ قراءة نص بلغته الأصلية، وكتابة نص جديد باللغة الهدف؛ لذلك يشترط في المترجم - بحسب نيومارك - أن يكون على دراية بلغة النص الأصلي وثقافة الناطقين بها، وأن يكون كذلك على دراية تامة بلغة النص الهدف وثقافة الناطقين بها. لن نستغرب، إذن، حين نعلم أن أحمد الصافي النجفي - عراقي الأصل - كان قد ارتحل إلى إيران وقضى فيها ثماني سنوات قبل أن يترجم رباعيات الخيام، ثم لن يكون مُستغرَبا أن تكون ترجمته من أفضل الترجمات للرباعيات المعروفة، بعد معاشرته للناطقين باللغة الفارسية ومخالطته إياهم سنين طويلة! أما اللغة، التي هي عماد تفكير الإنسان، ومرآته في الفكر والثقافة والاجتماع وغير ذلك، فربما من المستحيل أن يتطابق فيها لسانان من بلد واحد، فكيف إذا كانا من ثقافتين إحداهما في مشارق الأرض والأخرى في مغاربها؟ وإذا كانت اللغات ذاتها تختلف فيما بينها من حيث قواعدها النحوية والصرفية ودلالات كلماتها وأساليب الصياغة وحتى في تأثير أصواتها على المتلقي من كلا الجانبين، فهل يشمل عمل المترجم تلك القواعد والأساليب كي يكون أمينا على هذه الرسالة؟ هل عليه أن يلتزم قواعد الإنجليزية مثلا لكتابة نص عربي؟ يبدو ذلك ضربا من الجنون، فلننقل المعنى وحده بأمانة، ولتذهب القواعد والمفردات إلى الجحيم! من هنا جاء المثل الإيطالي المعروف "traduttori traditori" "المترجمون خونة".
كثيرة هي المناحي اللغوية والثقافية التي يلجأ فيها المترجم الصحفي مضطرا إلى الخيانة بهدف إيصال رسالة كاتب النص الأصلي، وأخص هنا الترجمة إلى العربية، والفوارق الكبيرة بينها وبين اللغات الغربية. على سبيل المثال، فإن الإنجليز يبدؤون جملتهم بالفاعل ثم يأتون على الفعل، وكأن كلامهم كله جمل اسمية، بينما تُنوع العربية في استخدام الجملتين الفعلية والاسمية مع رجاحة كفة الفعلية في غالب النصوص، ولكلتا الجملتين دلالات معينة؛ فالفعلية تُبرز الفِعلة ذاتها، والاسمية تُبرز الشخوص. على كل حال لن يلتزم المترجم بقواعد الإنجليزية، وسيصوغ جملا فعلية كثيرة، فاستبشروا بالخيانة!
القمر في الإسبانية مؤنث، والشمس مذكرة، كثير من المذكرات العربية مؤنثة في الإسبانية، والعكس كذلك صحيح، ماذا سيصنع المترجم أمام مجتمع مدني وآخر محافظ؟ هل يرضي التيارات التقليدية أم يجنح صوب النسوية؟ في النهاية سيقرأ الإسبان المقال تحت ضوء قمرة أنثى، وسيقرؤه العرب تحت ضوء قمر ذكر! كما أن الإنجليز يقولون Friend، كيف نترجم هذه؟ صديق أم صديقة؟ هل يؤمن المترجم بوجود جنس ثالث غير هذين؟
ماذا عن الملكية في عالم رأسمالي؟ الإنجليزية واللغات اللاتينية في العموم تقدم ضمير الملكية على الاسم، على عكس العربية التي تذكر الاسم ابتداء ثم تلحق به ضمير الملكية مهملا متصلا. يعرف الدارسون في علوم اللغة واللسانيات أن ما يتقدم من كلمات في الجمل تكون له الأهمية في المقال، ليس أمامك هنا سوى الخضوع لقواعد العربية وإهمال الملكية في أواخر الأسماء ضميرا متصلا لا يتجاوز الحرف أو الحرفين، حتى وإن لم تكن شيوعيا!
ماذا عن الأرقام في عالم رقمي؟ وماذا عن الأعداد في عالم بات القتلى فيه أرقاما يومية لا أسماء؟ اللغات الغربية تذكر الرقم قبل الاسم، العدد قبل المعدود، بينما العربية تتيح لك أن تضع الاسم قبل العدد، أن تنوّه بالاسم وأن تعطيه حقه ولو في اللغة؛ قُتل أربعة مدنيين، أم قُتل مدنيون أربعة؟!
كل ذلك يضع المترجم الصحفي أمام مفترقات عديدة، تتفرع منها طرق عديدة، كلها تؤدي إلى الخيانة، لكن، ماذا إذا كان الطريق مسدودا بالأساس؟
في بعض الأحيان يجد المترجم في الصحافة نفسه أمام حاجز لا منفذ فيه، كلمة لا أصل لها في اللغة المترجم إليها. قبل أشهر قليلة ترجمتُ نصا لكاتب من المكسيك لفائدة "مجلة الصحافة"، أتى على ذكر نبتة اسمها (Chayote)، بحثتُ عنها في موسوعات النباتات ولم أجد لها أصلا في العربية، ذهبتُ إلى مشتل في الشمال، سألتُ المزارعين هناك، لم يعرفها أحد، آخر الأمر أدركتُ أنها نبتة تنتشر في أمريكا اللاتينية فقط. لم يعرفها أجدادنا هنا، للوهلة الأولى رأيت أن أضع اسم نبات آخر من الفصيلة النباتية ذاتها، يكون قريبا من خصائصها وصفاتها، أحسست أني أبالغ في الخيانة، في آخر الأمر وضعت اسمها كما هو؛ "تشايوته"، وتركت ملاحظة للقارئ في الهامش لا تتجاوز السطر، وضعت فيها نبذة عامة عن تلك النبتة اللعينة!
والآن بعد أن استعرضنا شيئا من مواضع الخيانة في الترجمة، ماذا عن المترجم الأمين؟ ماذا لو طبقنا الترجمة الحرفية حتى على قواعد اللغة وصياغاتها؟ هنا ستكون الكارثة!
كثير من الصياغات اللغوية الرديئة سببها ترجمات رديئة بالأساس، حتى إن بعضها يحرف المعنى عن القصد تماما، مثال ذلك الصياغة المستخدمة بكثرة اليوم في الصحافة والإعلام حين نقول مثلا: "ثلاث ساعات بعد خطاب الرئيس، اندلعت مواجهات..."، فبينما يقصد الكاتب أن المواجهات اندلعت بعد الخطاب بثلاث ساعات، فإن هذه الجملة تشير بصياغتها هكذا إلى أن المواجهات اندلعت بعد الخطاب مباشرة ولمدة ثلاث ساعات فقط، ثم توقفت! هذه الصياغة ترجمة حرفية من الإنجليزية “Three hours after the president speech…”، والأصل أن نقول: "بعد ثلاث ساعات من خطاب الرئيس، اندلعت مواجهات..."، كما نرى فإن ترجمة حرفية واحدة حرَّفت المعنى كله، وسلِم المترجم من الخيانة!
يستخدم الصحفيون العرب في شمال أفريقيا كلمة "يفقد" في التقارير الرياضية: "منتخبنا الوطني يفقد مباراته أمام..."، منذ متى نستخدم الفعل يفقد في هذا السياق؟ معروف في العربية أن الفقد يكون للشيء أو الشخص الذي كان بين يديك أصلا، في متناولك، أما في التنافس فهي خسارة، "خسر المنتخب ...". هذه أيضا ترجمة رديئة عن الإيطالية والإسبانية من الفعل (Perder)، ولربما يتفوق علينا الأوروبيون في الرياضة؛ لأن ضمير لسانهم يَعُدّ المنافسات بين أيديهم في الأساس، فيحرصون على ألا يفقدوها، بينما نحن نعدّها ربحا وخسارة!
ما يهمنا هنا ألا يخسر المترجم أبدا.
قبل أن أدخل عالم الترجمة، كنت أعمل موظف كاشير في مطعم شعبي، كانوا يسمون الكاشير هناك في نبوءة مستعجلة "الحرامي"، والحقّ أن كل الظروف كانت مُهيأة لذلك؛ عمل بغير عقد رسمي ولا ضمان اجتماعي ولا تأمين صحي، وبأجر يومي لا يتجاوز عشرة دولارات، بينما أنت تحرس صندوقا فيه الآلاف. وظيفتك أن تكون رسولا بين الزبون وبقية العمال، تنقل رسالته على قصاصات من ورق، كل ما عليك أن تكون أمينا في نقل طلبات الزبون، وأن تكون لبقا وحريصا في لصوصيتك.
أمضيت هناك تسع سنوات، واليوم أجدني أفعل الشيء ذاته! كل الظروف مهيأة للخيانة في الترجمة، والمنافذ كلها مسدودة، كل ما عليك أن توصل رسالة الكاتب بأمانة مهما كان الثمن اللغوي، الجميع يعلم أنك خائن، والكاتب زبونك الأصيل، افهم طلبه جيدا، واحرص على نقله سليما إلى القراء، بكل ما استطعت إليه الوصول من مفردات، قلت أو كثرت، في النهاية أنت تخون بأمانة مطلقة يا عزيزي.