جريدة الأخبار
نشرت "جريدة الأخبار" سلسلة المقالات التالية إبان إعلان المحكمة العليا البريطانية رفع الحظر عن تسليم مؤسس ورئيس تحرير "ويكيليكس" إلى الولايات المتحدة الأميركية بعد أكثر من 11 عاماً على احتجازه فيها:
نهايةُ فاضِح الإمبراطورية: أسانج إلى حتفه الأميركي-سعيد محمد
لندن | عند العاشرة والربع من صباح يوم الجمعة (10-12-2021)، وفي غياب الأسير جوليان أسّانج، الذي تجرّأ وحيداً على وصف عُري الإمبراطورية الأميركيّة، وكشف إجرامها المؤسّس، قرّرت هذه الإمبراطوريّة، وعلى لسان قاضٍ بريطاني، إظهار سَوءتها على العلن، بإزالة آخر قيد قانوني شكلي كان يقف في وجه تسليم مؤسّس موقع «ويكيليكس» إلى حكومة القتَلة ذاتهم، الذين كشف طرائق عملهم، وفضَح مراسلاتهم، وقدّم حقيقتهم إلى البشريّة. وبقرارها هذا، الذي للمفارقة صدر يوم الاحتفال السنويّ بحقوق الإنسان، منحت لندن منظومة الاستخبارات الأميركيّة الحقّ القانوني في اختطاف أيّ شخص، من أيّ جزء من العالم، يجرؤ على فضح جرائمها ضدّ الإنسانية
في توقيت يبعث على السخرية، وفيما تحتفل لندن باليوم السنوي لحقوق الإنسان، ألغت محكمة بريطانيّة عليا قراراً سابقاً لمحكمة ابتدائيّة، يمنع تسليم جوليان أسانج إلى الولايات المتحدة، التي تطارده منذ أكثر من عشر سنوات، بعد اتهامه بنشر وثائق رسميّة مسرّبة، تكشف عن جرائم ارتكبتها في معسكرات الاعتقال في خليج غوانتانامو والعراق وأفغانستان، وتفاصيل عمليات التّعذيب وتسليم الأسرى، التي قامت بها وكالة الاستخبارات المركزية، كما طرائق عمل النخبة التي تدير الإمبراطوريّة الأميركية من واشنطن. ولم يُمنح أسانج، المعتقل في سجن مشدَّد الحراسة مخصَّص لعتاة المجرمين والإرهابيين شمال العاصمة البريطانية، الإذن بحضور جلسة الاستئناف شخصياً. وقَبل القاضي تيموثي هولرويد، طلب الفريق القانوني الممثّل للجانب الأميركي، باستئناف الحكم الابتدائي الذي قضى، في كانون الثاني العام الماضي، بعدم تسليم أسانج بناءً على ظروفه الصحّية والسايكولوجيّة، لأنّ من المرجّح ــــ وفق تقييم خبراء كلّفتهم الحكومة البريطانيّة بتقييم حالته ــــ أن يقْدم على الانتحار، إن تمّ تسليمه للولايات المتحدة. وقال هولرويد إنّه راضٍ عن مجموعة من الضمانات التي قدّمتها الولايات المتحدة، بشأن ظروف احتجاز أسانج عند تسليمه، بما في ذلك تعهّد مكتوب بعدم احتجازه في سجن «ADX» سيّئ السمعة، الذي يخضع لإجراءات أمنية مشدّدة في كولورادو، ويشهد انتهاكات دائمة لحقوق السجناء، وإمكانيّة نقله إلى أوستراليا لقضاء عقوبته، في حال إدانته بالتّهم الموجّهة إليه. ولا أحد تساوره شكوك بأن المحاكم الأميركيّة ستقضي بسجن أسانج 175 عاماً، وفق قائمة الجرائم المنسوبة إليه. وتقول «منظّمة العفو الدولية»، إنّ ما يسمّى بـ»الضمانات» التي قدّمتها الحكومة الأميركية، «تترك السيّد أسانج عرضة لخطر إساءة المعاملة»، و»لا يمكن الاعتماد عليها بحكم صياغتها»، و»ينبغي رفضها»، مضيفة أنّها «فقدت صدقيّتها باعتراف الولايات المتحدة، بأنّها تحتفظ بحقّها في إلغاء تلك الضمانات»، لكن هولرويد أغفل النظر عمّا تَقدّم كلّه.
وقال القاضي هولرويد إنّه يتعيّن الآن تحويل القضية إلى محكمة ويستمنستر المحلّية، التي ستُرسل توجيهات القضاة إلى وزيرة الداخلية، بريتي باتيل، لتُصدر قرارها السيادي، في ما إذا كان يتعيّن تسليم أسانج أو لا. وباتيل معروفة بأنّها من صقور اليمين البريطاني المحافظ، وأخلص أتباع رئيس الوزراء، بوريس جونسون، ومن المرجّح أنّها لن تتردّد في قبول مذكّرة التسليم الأميركية.
ومع هذا، هناك خطوة شكليّة أخيرة يمكن لفريق الدفاع عن أسانج اللجوء إليها، وتقضي باستئناف قرار المحكمة الأخير لدى المحكمة الملكيّة العليا، وهي أعلى درجة تقاضٍ في النظام القانوني البريطاني. وأكّدت ستيلا موريس، حاملة الجنسيّة البريطانية، وعقيلة أسانج وأم أولاده، أن فريق الدفاع سيستأنف القرار بالفعل، وذلك في معرض تعليقها على الحكم الفاضح أمام الصحافيين، خارج مبنى المحكمة، حيث تجمّع عدد من مؤيّدي أسانج، بعد صدور الحكم، وهم يهتفون: «أَفرجوا فوراً عن جوليان أسانج» و»لا للتسليم». وربط هؤلاء مئات الأشرطة الصفراء ببوابات المحكمة، كما رفعوا لافتات تقول: «الصحافة ليست جريمة». وتساءلت موريس أمامهم: «كيف يمكن أن يكون هذا القرار عادلاً؟ وكيف يمكن أن يكون صحيحاً وهو يقضي بتسليم جوليان إلى الجهة نفسها، إلى الاستخبارات المركزيّة الأميركية، التي حاولت وتخطّط لقتله؟»، واصفة القرار بأنّه «خطير ومضلّل»، و»إجهاضٌ سافر للعدالة».
ومن المعروف أنّه، في 26 أيلول الماضي، تمّ الكشف عن خطط وكالة الاستخبارات المركزية لاغتيال جوليان أسانج، في تقرير مثير للرعب من تلك الحصانة التي تتعامل بها النخبة الحاكمة في الولايات المتحدّة، تجاه أيّ مسؤوليّة قانونية بشأن قراراتها بتنفيذ اغتيالات للأفراد. وبحسب تحقيق مفصّل، فإنّ المناقشات بشأن اغتيال جوليان أسانج في لندن، جرت «على أعلى المستويات»، بين وكالة الاستخبارات المركزية والبيت الأبيض ــــ أيّام الرئيس السابق، دونالد ترامب ــــ، كما أن عدداً من السيناريوات للتخلّص من أسانج وُضعت بناءً على أوامر مباشرة من مايك بومبيو، مدير وكالة الاستخبارات المركزية، آنذاك. وكشف التحقيق أن خطط اختطاف وتصفية أسانج كانت متقدّمة للغاية، لولا أنّ أجهزة عمليات وكالة الاستخبارات المركزية دفعت إلى التروّي في التنفيذ، ودفعت باتجاه اتّخاذ إجراءات قانونيّة وتوجيه اتّهامات ضدّه، يمكن الاعتماد عليها كغطاء لتسليمه من قبل السلطات البريطانيّة، التي لا تخرج بأيّ حال عن الرغبات الأميركية.
ومن المؤسف أن أيان بورنيت، قاضي الاستئناف في محكمة العدل الملكيّة العليا، الذي سيبتّ بمصير أسانج الآن، هو صديق عائلي مقرّب من السير آلان دنكان ــــ وزير الخارجية البريطانيّ السابق، الذي وصف أسانج بأنّه «دودة صغيرة بائسة»، في خطاب له أمام البرلمان، ورتّب عمليّة طرده من مقرّ السفارة الإكوادورية في لندن، حيث كان يلجأ هرباً من ملاحقة الاستخبارات الأميركيّة له. وبحسب مذكّرات نشرها دنكان، فإنّ الوزير السابق تابع الشرطة البريطانية وهي تأسر ناشر «ويكيليكس» من مقرّ السفارة الإكوادورية، عبر بثّ مباشر في غرفة العمليات في وزارة الخارجية. واعترف، في وقت لاحق، بأنّه كان «يحاول إبعاد ابتسامة الرضى عن وجهه»، واستضاف في مكتبه البرلماني، الفريق المشارك في عملية القبض على أسانج، حيث تناول معهم المشروبات. وقد جرى ذلك، قبل أن يطير إلى الإكوادور للقاء الرئيس السابق، لينين مورينو، من أجل «شكره» على تعاونه في تجريد أسانج من الحماية الدبلوماسيّة التي كان يتمتّع بها، أثناء احتجازه في مقرّ السفارة. وذكر دنكان أنّه أهدى مورينو «طبق خزف جميل من متجر هدايا قصر باكنغهام»، تعبيراً عن امتنان بريطانيا، وأضاف محتفلاً: «لقد أُنجزت المهمّة».
وتشكّل هذه الملاحقة الأمنية والقضائية ضدّ أسانج، التي اشتركت فيها عدّة دول غربيّة أخرى، إلى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا ــــ بما فيها السويد وأوستراليا ــــ، تهديداً وجودياً لحرية الصحافة في جميع أنحاء العالم، كما تكشف عن نفاق الديموقراطيّات الغربيّة بشأن القانون الدولي، وحقوق الإنسان، وحقّ التعبير، ومحاربة الفساد. ولا يمكن بعد حكم يوم أمس، لشخص عاقل حرّ التفكير، أو أيّ صحافي غير مرتشٍ، أن يغمض عينيه، فضلاً عن أن يمارس حقّه بالتعبير والعمل لمواجهة طغيان الإمبراطورية الأميركيّة، بأمان من الاغتيال أو السجن أو التعذيب.
هوس «البطل الأميركي»-جمال غصن
الأبطال ليسوا سواسية، لا بل الكثير من البطولة التي يروّج لها في عالمنا الحالي ليست إلا أوهام تفوّق في نظام يجعل الفرد يصارع أخاه من أجل الارتقاء المادي عليه. في سلسلة «الرقصة الأخيرة» الوثائقية عن حياة أسطورة كرة السلة مايكل جوردان، يظهر الجانب التنافسي الذي يكاد يكون مَرَضياً للاعب شيكاغو بولز (وواشنطن ويزردز) السابق. فهو كان يريد الفوز في كل شيء مهما كان، وأخذه ذلك نحو مراهنات على بطولات مبتكرة يميناً ويساراً لإشباع هذه النزعة فيه. على أرضية ملاعب كرة السلة الخشبية، كان جوردان الجَوِّيّ، كما كان يلقّب نظراً لقدرته على تحدّي قوانين الجاذبية، يحبك روايات مخترعة عن خصومه ليحفّز نفسه على تحطيم كل من يواجهه. طبعاً النزعة التنافسية العالية دائماً موجودة عند رياضيي الصف الأول، لكن الغالبية تكتفي بالانجازات الحقيقية كالفوز ببطولة الـ«NBA» ست مرّات، كما فعل جوردان، ولا تستوهم بطولات لتراهن عليها مع مسؤول الأمن في استاد شيكاغو، كما كان يفعل جوردان أيضاً. لكن مفهوم البطولة بحدّ ذاته غير كاف، فترى إصراراً في الولايات المتحدة على الادّعاء بأن بطولاتها المحلية هي بطولات عالمية. هذا ينطبق على أبطال دوري السلة، كما على بطولة كرة القاعدة التي يسمّون مبارياتها النهائية «السلسلة العالمية» (World Series)، علماً أن معظم العالم يجهل قواعد هذه اللعبة المملّة التي تعتبر وجبة الهوت دوغ المقرفة أحد مغريات حضورها في المدرجات. وبالمناسبة توجد في الولايات المتحدة بطولة أكل الهوت دوغ، وتقام سنوياً في الرابع من تموز، أي في عيد الاستقلال، والبطل هذا العام حطّم الرقم القياسي للبطولة بتناوله 76 سندويش هوت دوغ خلال عشر دقائق.
هوس ثقافة الولايات المتحدة الأميركية بالفوز والبطولات هو تجسيد لدعاية الرأسمالية المروّجة للترقّي الطبقي من خلال العمل الدؤوب والجهد الفردي، والتي تسمّى في الأفلام «الحلم الأميركي». وهناك انقسام جدّي في المجتمع بين من يعتبرهم النظام الرأسمالي ناجحين أو فائزين (winners) ومن يراهم فاشلين خاسرين (losers)، ولا شكّ أن دونالد ترامب كان الأكثر صراحة في استخدامه لهذه المصطلحات في وصفه للناس، لكنه لم يكن أول رئيس يكثر من اتهام ضحايا النظام بالفشل. فقد سبقه رونالد ريغان في فترة صعود المحافظين الجدد في مركز الامبراطورية. في المقابل رأى ليبراليو واشنطن في هذا الفرز جَرحاً لمشاعر «الفاشلين» فابتكروا مفهوم «الجميع فائز»، وكرّسوه ميدالياتً وكؤوساً توزّع على الجميع لمجرّد المحاولة. فلا تخلو غرفة أي من أولاد الطبقة الوسطى في بلاد الحلم الأميركي من رفوف تعرض الجوائز التي حصدها الفرد وجلّها في مسابقات خسرها، لكنه أعطى فيها كل ما عنده. طبعاً، الوضع يختلف في المناطق الفقيرة الكثيرة في شمال القارة الأميركية، لكننا لا نسمع أصوات هؤلاء المهمشين في الإعلام الطاغي، وليسوا هم من يصنع السياسات التي تقمعنا معهم من أجل حفنة مراكمي ثروات «رأس المال المعولم». هذا المفهوم كرّس لدى النخب الليبرالية الحس بالأحقية (sense of entitlement) وأنهم يستحقون الفوز والنجاح لمجرّد المحاولة، وهو أمر سهل نسبياً إذا كنت من المحظيين في مركز تراكم «رأس المال» الحالي، وشرح عامر محسن ذلك في مقاله الأخير المعنون «نظام الحوافز». لكن المضحك هو حين ترى أن نخب الأطراف الببغائية تستنسخ هذا الخطاب والإحساس «الأحقّوي»، ويردّدون في «ثوراتهم» أنهم يستحقون الفوز. ولا يتوقفون عند هذا الحد بل يرون أن شعوبهم «الفاشلة» لا تليق بهم. أن تكون دونالد ترامب وتتصرف كالغائط وتتقيأ قرفه وقد ولدت لملياردير عنصري في عاصمة «رأس المال» فهذا أمر مقيت. أمّا أن تتمثل صورة دونالد ترامب بينما أنت تستجدي فوزاً - أي فوز وهمي لأنه حتماً لن يكون حقيقياً - من أصغر وكلاء الامبريالية، فهذا أمر مثير للشفقة.
نشر موقع «بابيلون بي» الساخر منذ سنوات مقالاً تهكمياً بعنوان «الشرطة تهدّئ محتجين من جيل الألفية بعد أن وزّعت عليهم كؤوس مشاركة». في السياق نفسه، كثرت مؤخراً البطولات في لبنان، من أبطال الساحات إلى أبطال الشاشات ومنصات التواصل الاجتماعي، ولا ننسى أبطال النقابات والمصارف والمحاكم، وكثر معها بطبيعة الحال توزيع الميداليات والكؤوس وإقامة ذهبية من هنا، وفضة انتخابية من هناك، وبرونزاج إن جي أوزي في البترون، إلخ… الكل فائزون، تماماً كما فاز مايكل جوردان (أو خصومه، لا يهمّ) في العديد من العروض الجانبية التي لا معنى لها، ففي النهاية لا أحد يذكر إلا انجازاته في ملعب كرة السلة.
في عالم السياسة اليوم الملعب واضح، واللاعبون المحترفون معروفون، وأحد الأطراف هو خفير العالم الإمبريالي الذي يعادي الشعوب، إلا من قَبِلَ منها أن يكون وكيلاً أميناً خادماً لهيمنته، أو بكلمة أخرى أكثر صراحة وأقلّ دبلوماسية: عميل. في المقابل، هناك ملايين يسطّرون بطولات حقيقية حول العالم من أجل مستقبل أكثر عدالة للشعوب. هناك من يقاتل بالنار، وهناك شعوب تقاوم شتى أنواع الاحتلال والحصار، وهناك من ينبذ الرخاء الفردي من أجل الارتقاء الجماعي وهناك من يقبع في السجون لأنه أفصح عن ما لا يراد فضحه. لا تتسع هذه الصفحة لذكر كل من يستحق ذكره في هذا المجال، ولكن بما أننا في مهنة الصحافة، لا بد من التوقف عند حدث اليوم، إذ حكم قاض بريطاني لمصلحة واشنطن في معركتها ضد «ويكيليكس» وطلب تسليمها مؤسس الموقع للمحاكمة في الولايات المتحدة. لن نضحك على أنفسنا ونبكي الحريات الليبرالية الزائفة. فقط تحية لكل صحافي يهزّ أركان الإمبراطورية…تحية للبطل جوليان أسانج.