بين الحقيقة والشعبوية: ماذا يختار الصحافي؟

2021-11-19 07:23

التقارير

 

 الصحافة التفسيرية.. طوق نجاة

تعدّ الصحافة التفسيرية Explanatory Journalism جنسا صحفيا قديما متجدّدا؛ حيث تعود جذورها الجنينية الأولى في الممارسة المهنية الصحفية والاتجاهات التحريرية، إلى ما يفوق قرنا من الزمن. ويمكن اعتبار المدرسة الصحفية الأنجلوسكسونية (الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا على وجه الخصوص) الرائدة في هذا المجال، في حين تأتي المدرسة الفرانكفونية (فرنسا بشكل خاص) في مرتبة ثانية. وما تزال التجربة العربية في هذا التخصّص والتوجه محدودة وملتبسة؛ وهو ما يجعلها في حاجة للمزيد من التأصيل والتفكير رغم بعض المحاولات الجادّة والجديرة بالتثمين.

 وقد شهد هذا الصنف من الصحافة فترات من الصعود والأفول، إذ اقترنت فترات نمائه خاصة بالأزمات والأحداث التي شكلت منعطفات تاريخية، وكذلك ببروز الظواهر المعقدة والمركبة التي كان لها تأثيرات سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وثقافية، وبيئية، ومناخية، وصحيّة كبيرة، لعلّ آخرها أزمة جائحة فيروس كوفيد-19.

تقوم الصحافة التفسيرية على شرح المواضيع بكل جوانبها، وإتاحة المجال للمتلقي لاستخلاص النتيجة بنفسه كما يراها، لكن شريطة أن يضمن العمل التفسيري شرحا كاملا لأركان الموضوع المختار وزواياه.

وتُعرّفُ الصحافة التفسيرية بأنّها صحافة تتناول القضايا المركّبة والمعقّدة في كافة مجالات الحياة بهدف تبسيطها للجمهور العريض. ويمارس هذا الجنس/النمط الصحفي صحفيون مختصون، يتولّون بواسطة التقنيات الحديثة تفسير المواضيع المختارة التي سيتم الاشتغال عليها. ولبناء قصص الصحافة التفسيرية لابد من الاعتماد على نوع كتابة يعرض بشكل واضح ودقيق وجذاب مضامين المواضيع المختارة، كما يمكن أن يكون المضمون التفسيري في قالب فيديو يتولّى شرح المحتويات بشكل يستقطب الجمهور.

وليست الصحافة التفسيرية صحافة رأي أو صحافة تحاليل إخبارية تقليدية، وإنّما صحافة تجيب على ركنيْن أساسييْن من أركان المقال الصحفي: "لماذا؟" و"كيف؟" وفق تعبير البروفيسور الصادق الحمامي، الأستاذ بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار بمنوبة (تونس).

يمكن لهذا النوع الصحفيّ -إذا لقيَ رواجا- أن يحدّ من انتشار الشائعات؛ لأنّه يؤدّي وظيفة أساسيّة وهي إطلاع الجمهور العريض على كل ما يستحقه من معلومات بالتوازي مع زيادة وعيه، حتّى يتمكّن من التمييز بين الأخبار الزائفة والصحيحة (1). 

 ويُطلَق على الصحافة التفسيرية أيضا تسمية الصحافة التوضيحية، أو الصحافة البيداغوجية، أو الصحافة الشارحة. وتقوم الكثير من الصحف في العالم لاسيما الغربية، بتفسير الأخبار المتناولة في صحيفتها، وذلك من خلال البحث عن المواد التي تساعد محرريها في شرح وتبسيط وتأطير الأخبار من مختلف الزوايا، فمن سمات الصحفي الناجح ألا يقتصر عمله فقط على تناول الأخبار وتغطيتها، بل على التعمق في تفسيرها (2).

لقد رصدت جامعة كولومبيا منذ 1985 جائزة لهذا النوع الصحفي، تحت مسمى التقارير التفسيرية Explanatory reporting ضمن جوائز بوليتزر (3). ونجد في العالم الكثير من الأمثلة التي اعتمدت الصحافة التفسيرية على غرار موقع صحيفة "الغارديان"، و"بي بي سي" و"واشنطن بوست"، و"نيويورك تايمز"، ومجلة "سلايت"، ووكالة "بلومبيرغ".

 

ويعد موقع (VOX) الأمريكي الذي يرفع شعار "افهم الأخبار" (4)، من التجارب الملهمة في هذا المجال، والمثيرة للجدل في الآن ذاته. يعرّف القائمون على هذا الموقع منصتهم الرقمية بأنّها مختصة في شرح الأخبار، معتبرين أنّنا نعيش اليوم في عالم تنتشر فيه الكثير من المعلومات والقليل من السياقات، الكثير من الضوضاء والقليل من البصيرة، الأمر الذي يستدعي إطلاق منصة تجعل من الصحافة التفسيرية جوهر عملها اليومي. 

أطلقَ هذا الموقع في عالم الصحافة الأمريكية في سنة 2014 ثلّةٌ من الصحفيين الأمريكيين، يتقدمهم إزرا كلاين وماثيو إيغليسياس وميليسا بال من مؤسسة "VOX Media". كان مضمون افتتاحية رئيس التحرير إزرا كلاين عند إطلاق الموقع عاكسا لفلسفة المنصة، التي تعتبر من أهم التجارب في مجال الصحافة التفسيرية في الزمن الراهن. فقد اختار كلاين طرح سؤال: "كيف تجعل منّا السياسة أغبياء؟" كعنوان للمقال الافتتاحي، محاولا شرح خيبته من الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية زمن حكم الرئيس باراك أوباما، ومستلهما في مقاربته الصحفية أفكارا من إحدى نظريات أستاذ القانون بجامعة ييل، دان كاهان، حول كيف يحمي الناس أنفسهم من معطيات ومعلومات حقيقية تتصادم مع معتقداتهم الأساسيّة والشخصيّة (5). 

إنّ تجربة موقع VOX وغيرها من التجارب البارزة على الصعيد العالمي، تعكس الوجه المتجدّد للصحافة التفسيرية التي أضحت تستفيد من التقنيات والأدوات التكنولوجية الحديثة، سواء بالتقاطع مع الصحافة متعدّدة الوسائط والحوامل؛ كالبودكاست، والفيديوهات التبسيطية، وتقنية الفيديو وول، والصور والرسوم الإحصائية والتوضيحية، أو صحافة البيانات أو الصحافة العلميّة (6).

ولا شك أنّ قيمة الصحافة التفسيرية بوصفها جنسا/نمطا صحفيا يندرج ضمن مجال صحافة الجودة والعمق، تكمن في إدراج المعلومات والوقائع في سياقاتها، مع إعطاء المتلقي من الجمهور المعطيات التي تتيح له فهما شاملا من مختلف الزوايا دون توجيه عبر فرض رأي أو موقف ما مسبق من قبل الصحفي.

ومن المهم الإشارة إلى أنّ الصحافة التفسيرية كمفهوم عام، لا تقتصر فقط على التقارير الإخبارية التوضيحية التي ترتكز على الشرح والتمحيص والتبسيط والنبش، في مختلف الزوايا المتعلقة بالحدث أو بالظاهرة التي تكون قيد المعالجة الصحفية. بل إنّ الحوارات الصحفية التفسيرية البيداغوجية (التعليمية)، خاصة حينما يتعلق الأمر بمحاورة خبراء مختصين، وكذلك التحقيقات والقصص التفسيريّة، هي الأخرى يمكن إدراجها في نفس الخانة، مع ضرورة احترام تنوّع واختلاف المقاربات والمنهجيات. لكن تبقى التقارير الصحفيّة التفسيرية هي التعبير الأبرز للصحافة الشارحة، حيث تُعدّ الأكثر استعمالا خاصة في الصحافة الأنجلوسكسونية.

في المحصّلة، يمكن توصيف صحافة التفسير بأنها صحافة إنارة العقول لمواجهة صحافة إثارة الغرائز والعواطف والأيديولوجيات المحنطة، التي يصبح معها اللون الأسود الداكن أبيض ناصعا، والشائعات حقائق لا تقبل النقاش والدحض. وفوق ذلك، هي صحافة ميدانية بالأساس عكس الصحافة الجالسة التي تكتفي فقط بنقل التصريحات والمواقف، وما ينشر من بلاغات رسمية على صفحات التواصل الاجتماعي، وكل ما هو متاح من مصادر على الإنترنت في شكل تقارير صحفيّة سطحيّة وعامّة. فالصحفي المفسّر مطالب في قصصه – بالضرورة - بالجمع بين نقل المعلومات وتفسيرها وشرحها، بعد التدقيق والفرز والربط بالسياقات وفق طرح متسلسل، وبشكل بيداغوجي لا يسقط في مطب تمرير رأي شخصي. هنا يمكن الحديث عن شكل من أشكال الصحافة الاندماجية التي تربط المنهج الصحفي التفسيري بالمنهج البحثي الأكاديمي والإخراج الفنّي التقني الإبداعي.

 من المهم، أيضا، أن يقوم الصحفي المختص في الصحافة التفسيرية بالمقابلات اللازمة مع الخبراء المختصين، وأن يطرق كل المصادر المتاحة/ المفتوحة (كتب، دراسات، وثائق، شهادات، نصوص قانونية… إلخ)، وغير المتاحة إن أمكن، من أجل تجميع أكثر ما يمكن من المعلومات والمعطيات لتعزّز طرحه التفسيري للموضوع قبل نشرها في قالب فني جذاب، يُسهم في تبسيط الأخبار والمعلومات والقضايا والإشكاليات الشائكة.

تساهم الصحافة التفسيرية بقسط كبير في تربية المتلقي على التعامل بشكل أكثر عقلاني وفطنة مع وسائل الإعلام والصحفيين. فهي تساعد الجمهور على أن يكون أكثر ذكاء في فهم الأخبار وتفهم الظواهر والقضايا الخلافية والجدلية. 

المصدر: مقتطفات من مقال تحت عنوان "الصحافة التفسيرية.. مع المعرفة ضد الشعبوية" بقلم محمد اليوسفي من معهد الجزيرة للاعلام