2021-05-05 10:31
"الحرب أصبحت رقمية في الشرق الأوسط ولا بد أن يثير ذلك مخاوف الجميع"... بهذه العبارات عنونت مجلة Foreign Policy الأميركية مقالها المنشور في عدد 22 شباط-فبراير 2021، حيث اعتبر كاتبا المقال فارمانفارميان ومنس أن منطقة الخليج تتحول، بسرعة ملحوظة، إلى حقل تجارب لأخلاقيات وممارسات الحرب الهجينة، التي قد تتسبب بسقوط عدد أقل من الضحايا بشكل مباشر إلا أنها تتسبب بخراب واضطراب أكبر (Farmanfarmaian & Mens, 2021). وبينما تلعب الكثير من دول العالم دوراً أساسيا في دعم هذه "الحرب الهجينة" تقنياً ولوجستياً عبر تقديم ودعم وتطوير برامج الإختراق الأمني الإلكتروني والهجوم السيبراني، يصبح الصراع الحقوقي العالمي الأبرز في العقد الجديد من القرن الحادي والعشرين هو كيفية تأمين إنتقال المفاضلة بين الأمن والحرية إلى الموازنة بين الحق في الخصوصية والحق في الأمان دون إنتهاك لحقوق الإنسان. وهذا ما لم تشهده السنوات الأخيرة، حيث أدت طفرة التطور التكنولوجي في العالم السيبراني إلى تعزيز نفوذ الحكومات التي تمتلك سجلاً حافلاً بانتهاكات حقوق الإنسان وتمكينها من متابعة المؤثرين والمعارضين البارزين لسلطتها.
وكان من أبرز "ضحايا" برامج المراقبة عبر الأجهزة الإلكترونية الصحفيون والناشطون الحقوقيون، ما يستدعي جهوداً عالمية على المستويات الحقوقية والتشريعية، كما التقنية والصناعية، لضبط إجتياح تقنيات التجسس والإختراق دون ضوابط ودواع قانونية بحتة، لحماية حق الأفراد في الحفاظ على الخصوصية بشكل عام، وحق الصحفيين بشكل خاص للحفاظ على حقهم في سرية مصادر معلوماتهم، وحقهم في حرية النشر والحق في حرية الرأي والتعبير. كما تبرز الحاجة لدعم وحماية الصحفيين، أكثر من أي وقت مضى، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تشهد الدول تدن في مؤشرات إحترام الحريات العامة، والحق في حرية الصحافة خاصة (RSF, 2021)، وسط توسع لافت وسريع لأسواق شركات الأمن الإلكتروني الإسرائيلية وتعاونها مع الأنظمة ذات التاريخ غير المشجع في مجال إنتهاك حقوق الإنسان.
المقدمة
نصَت المادةُ 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) على أن "لكل شخصٍ الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية إعتناقِ الآراء دون أي تدخل، وإستقاء الأنباء والأفكار، وتلقيها وإذاعتها بأي وسيلةٍ كانت، دون تقيدٍ بالحدود والجغرافيا". وقدْ تضمنَها العهدُ الأممي للحقوقِ المدنيةِ والسياسيةِ التي أقرَتْها الجمعيةُ العامةُ للأممِ المتحدةِ عام 1966. كما نصَّتِ المادةُ الثانيةُ من إعلانِ اليونسكو حولَ إسهامِ وسائلِ الإعلامِ في دعمِ السلامِ العالمي والتفاهمِ الدولي وتعزيزِ حقوقِ الإنسانِ ومكافحةِ العنصريةِ والتحريضِ على الحربِ للعامِ 1978 على أنَّ ممارسةَ حريةِ الرأيِ والتعبيرِ وحريةِ الإعلامِ المتعارفِ عليها كجزءٍ لا يتجزأُ من حقوقِ الإنسانِ وحرياتِه الأساسيةِ هي عاملٌ جوهريٌ في دعمِ السلامِ والتفاهمِ الدولييْن.
هذا وأشارَ التقريرُ الخاصُ للأممِ المتحدةِ حولَ حريةِ الرأيِ والتعبيرِ (1993) إلى أنَّ "حرية التعبيرِ تتضمنُ الوصولّ إلى المعلوماتِ التي تحتفظُ بها الدولةُ، وتلقي إلتزاماتٍ إيجابيةٍ على الدولِ لضمانِ الوصولِ إلى المعلوماتِ. كما أيد إعلان جوهانسبرغ (2002) للأمن القومي وحرية الوصول للمعلومات الحقَ في الوصولِ للمعلوماتِ، باعتبارِهِ من الحقوقِ الضروريةِ لضمانِ التمتعِ بالحق في حريةِ الرأيِ والتعبيرِ. كما أشارَتِ المحكمةُ الأوروبيةُ لحقوقِ الإنسانِ (2010) إلى إلزاميةِ تأمينِ حمايةٍ خاصةٍ للحق في حريةِ الصحافةِ كيْ يتمكنَ الصحفيون ومندوبو وسائلِ الإعلامِ من لعبِ دورِهم الحيوي المنوطِ بهم وتقديمِ المعلوماتِ والأفكارِ التي تهمُّ الرأيّ العامَ. ولتمكين الصحفيين ووسائل الإعلام وحمايتهم من اختراق حقهم في الخصوصية والحفاظ على سرية المصادر، أشارت المحكمة الى عدم أحقية الشرطة في تفتيش مباني وسائل الإعلام أو الاستيلاء على المادة الصحافية، والحفاظ على حقوق الصحافيين في حماية مصادرهم، وأن أي انتهاك لحقهم في سرية المصادر محمي في إطار ممارستهم لمهامهم في ايصال المعلومة للعموم هو انتهاك للمادة العاشرة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. والحق في الخصوصية هو التسليم بحق الأفراد في التمتع بفسحة للتنمية الذاتية، تقوم على مبدأي التفاعل والحرية، أو حقهم في "مجال خاص" يسع لهم فيه التفاعل أو عدم التفاعل مع الآخرين، دون الخضوع إلى تدخل الدولة ولا إلى تدخل تطفّلي زائد يمارسه أفراد آخرون بلا دعوة.
ولما كانت حرية الصحافة وقدرتها على تحقيق رسالتها كسلطة رابعة مراقِبة وكاشِفة لتفاصيل ما قد يُمرر خفية عن الرأي العام، وبالأخص فيما يتعلق بقضايا الفساد، منوطة بضمان حماية سرية المصادر، كان الحق في حماية سرية المصادر مقدساً بالنسبة للصحفيين أمام السلطات المعنية، وواجباً عليهم تجاه مصادر معلوماتهم. ولما كانت المادة 12 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان قد نصت صراحة على أنه "لا يجوز تعريضُ أحد لتدخُّل تعسُّفي في حياته الخاصة"، فإن الحق في الخصوصية أحد حقوق الإنسان الأساسية التي اشارت اليها أيضاً المادة 17 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وكذلك في العديد من الصكوك الدولية والإقليمية الأخرى لحقوق الإنسان. وفي العالم الرقمي، تكتسب خصوصية المعلومات أهمية بوجه خاص، وهذا يشمل، في آن معاً، المعلومات المتوافرة والمعلومات التي يمكن الحصول عليها عن شخص ما وعن حياته، والقرارات المتخذة استناداً إلى تلك المعلومات، فلا تقتصر بناء على ذلك على المعلومات الموضوعية المتوافرة في مجال الاتصالات، إنما أيضاً البيانات الوصفية عند تحليلها وتجميعها حتى وان كانت منشورة للعموم، فالنشر لا ينفي عنها الحماية. كذلك فإن الحق في الخصوصية ركيزة أساسية يقوم عليها المجتمع الديمقراطي الذي يحترم الحريات العامة (مجلس حقوق الإنسان، 2018).
ولكن جميع المواثيق الدولية التي أضفت هالة من القدسية على خصوصية جميع الأفراد، وخصوصاً الصحفيين والناشطين الحقوقيين منهم، لم تردع نمواً هائلاً في مجالات الإختراق الرقمي والتجسس السيبراني. فطورت العديد من الشركات الحكومية والخاصة في العديد من الدول برامجها القادرة على انتهاك خصوصية الفرد، عبر اختراق الهواتف الذكية، الحواسيب، وغيرها من الأجهزة التي تتحول تدريجياً الى جاسوس متنقل أثبتت معها العديد من الحالات حول العالم في العقد الأخير أن التتبع والتعقب غالباً ما قد يفضي إلى جرائم خطيرة، وصلت الى الإخفاء القسري والقتل أحياناً
وعلى الرغم من جميع التحركات الحقوقية والقانونية في المحافل الدولية، الإقليمية، والمحلية، إلا أن الجرائم الالكترونية ووتيرة اختراق الحسابات لم تضعف، لتزيد جائحة فيروس كورونا المستجد-2019 من سوء الأزمة مع توجه كبرى الشركات والمؤسسات إلى العمل عن بعد، وزيادة استخدام الأفراد لشبكات مواقع الإنترنت، ومنها مواقع التواصل الاجتماعي، ما زاد تعرضهم لمخاطر الهجمات السيبرانية، حيث شهد العالم في الربع الأول من العام 2021 ارتفاعاً ملحوظاً بالهجمات الإلكترونية الضخمة، وبعضها استهدف وسائل إعلامية (مثل Channel 9 الاسترالية)، حسابات شخصية او حسابات عمل لصحفيين أو ناشطيين حقوقيين، وغيرها (Meharchandani , 2021) .
إزاء النمو المطرد لهذه الحالات، تنظر لجنة دعم الصحفيين في جنيف (JSC) بعين الريبة والقلق البالغ الى تصاعد وتيرة الاستهداف الممنهج لوسائل الإعلام والعاملين في القطاع الإعلامي، خصوصاً الصحفيين والناشطين الإعلاميين والمدافعين عن حقوق الإنشان في الدول التي تشهد تراجعاً مشهوداً باحترام حقوق الإنسان والحريات العامة، نظراً لدورهم الفاعل في كشف الحقائق وإيصال المعلومات الى الرأي العام، في قضايا الفساد والإنتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان بشكل خاص. ولأن الفارق شاسع بين القدرات المالية الضخمة التي تسخرها الحكومات القمعية لشراء برامج وأجهزة قادرة على إختراق خصوصية الصحفيين والإعلاميين والوصول إلى بياناتهم الخاصة وكشفها كما تعريض أمنهم الشخصي للخطر من جهة وبين قدرات الإعلاميين والصحفيين والناشطين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان على تطوير قدراتهم على تأمين حمايتهم الرقمية الذاتية والحفاظ على الخصوصية، كان لا بد من وضع ضوابط صارمة لحماية حقوق الإنسان على الحكومات المحلية والجهات غير الحكومية (خصوصاً الشركات التي تطور برمجيات التجسس والإختراق الإلكتروني) مع الجدل الذي تثيره قضية الخصوصية عالمياً مؤخراً لناحية المفاضلة بين حق الأفراد في الخصوصية وواجب الحكومات في احترامه من جهة وواجب الحكومات في ملاحقة ومتابعة الخلايا الإرهابية والمخلة بالأمن حفاظاً على امن وسلامة مجتمعاتها من جهة أخرى، سواء عبر سن التشريعات المحلية والدولية لتقييد غزو تكنولوجيا المراقبة الرقمية الحديثة( مثل برامج التجسس، ثغرات Zero-Clicks، وغيرها...)، أو عبر فرض تعزيز وتوسيع ضوابط التصدير الإقليمية والدولية، وسنّ التشريعات الوطنية والدولية التي تقيّد غزو تكنولوجيا المراقبة الحديثة، لحمايتهم من التهجم غير القانوني أو التعسفي (من قبل أجهزة الدولة او ممثليها أو الشركات الخاصة التجارية)، وتوسيع الاستحقاقات الملزمة لمطوري برامج التجسس وللوسطاء.
هنا تبرز المسؤولية الأخلاقية والقانونية على الدول في إحترام الحق في الخصوصية وواجب حمايته في العالم الرقمي الإفتراضي، حيث تُلزم المادة ٢ من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الدول "باحترام وكفالة الحقوق المعترف بها في العهد لجميع الأفراد الموجودين داخل أراضيها و/أو الخاضعين لولايتها، دون أي تمييز، الامتناع عن انتهاك الحقوق المعترف بها في العهد، كما يجب أن تكون أي قيود يتم فرضها على أيٍّ من الحقوق المعترف بها جائزةً بموجب الأحكام ذات الصلة من العهد". هذا وينطوي واجب الدولة في حماية الحق في الخصوصية أن تفرض قيوداً على الشركات الخاصة ضمن ولايتها القضائية على آثار تتجاوز حدود تلك الولاية (كمراقبة صادراتها من التكنولوجيا الرقمية، تقييم الإطار القانوني لاستخدام تلك التكنولوجيات في بلاد المقصد، سجل العميل المستخدم في مجال احترام حقوق الإنسان). وإضافة إلى ذلك، لا بد من وضع الدول تشريعات لحماية مواطنيها خارج حدودها من إنتهاك خصوصيتهم الرقمية أيضاً (عبر الاتصالات أو العالم الرقمي الافتراضي الخاص بهم...) (مجلس حقوق الإنسان، 2020).
ومع تزايد استهداف وسائل الإعلام، الصحفيين، والمدافعين عن حقوق الإنسان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وانتهاك حقوقهم في الخصوصية وسرية المصادر، خصوصاً مع بروز جائحة كورونا المستجد التي تذرعت الكثير من دول المنطقة بضرورات "الطوارئ الصحية، الاجتماعية، والاقتصادية" الخاصة بها لفرض المزيد من إجراءات القمع والتتبع بحق المواطنين عموماً وبحق هؤلاء الناشطين خصوصاً، تابعت لجنة دعم الصحفيين في جنيف (JSC) بقلق بالغ إستمرار الجهود لتطوير وإستخدام تقنيات الإختراق الإلكتروني والتجسس في المنطقة، خصوصاً مع الفجوة الكبيرة بين حجم التهديدات والموارد الأمنية المتاحة للصحفيين وغرف الأخبار التي ترزح تحت نير أزمة إقتصادية فرضتها تبعات الجائحة. فبينما تشكل قضية حماية الخصوصية الفردية مدار بحث ونقاش عالميين حالياً، خصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا بعد تصاعد الهجمات الإرهابية وتوسل الإرهابيين والجماعات المتطرفة والإجرامية لشبكات التواصل الاجتماعي لتأمين التواصل والتخطيط إضافة إلى هجماتها الإلكترونية ضد أهدافها، بدأ التوجه نحو استبدال معادلة الأمن مقابل الحرية بمعادلة الأمن مقابل الخصوصية. وبينما تثير هذه التوجهات القلق والتخوف لدى المجتمعات المصنفة كمجتمعات ديمقراطية وتحترم حقوق الإنسان والحريات العامة، أصبحت في البلاد "الأقل حرية وديمقراطية" سيفاً مسلطاً على حقوق الصحفيين والإعلاميين كما الناشطين الحقوقيين (الأخبار، 2017).
وبينما تعاني العديد من الدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من الكثير من الإنتهاكات الفاضحة لمبادئ حقوق الإنسان والحريات العامة، تبرز الصناعات الإسرائيلية في مجال الأمن الرقمي كما تكنولوجيا الأمن السيبراني كصناعات متطورة تقدر بمليارات الدولارات استطاعت أن تغزو العالم وتثبت "سمعتها السيئة"، على حد توصيف منظمة العفو الدولية، في مجال التجسس الرقمي وإختراق الأجهزة الالكترونية في انتهاكات فاضحة لحقوق الإنسان والصحفيين، وخصوصاً الحق في الحماية، الخصوصية، سرية المصادر، وصولا إلى الحق في الأمن والأمان والحرية، مع إنتهاء العديد من الحالات المتعلقة بالناشطين والإعلاميين الخاضعين للمراقبة السيبرانية بواسطة تقنيات الشركات الإسرائيلية بالسجن، النفي، الإضطهاد الجسدي والمعنوي، حتى القتل (Amnesty, 2018).
إذ تشير العديد من المصادر الصحفية مع بداية نيسان-أبريل 2021 إلى توجه المملكة الأردنية الهاشمية إلى التفاوض مجدداً مع مجموعة NSO الإسرائيلية (التي تضم أقساماً لتصنيع برمجيات التجسس والإختراق السيبراني الأشهر عالمياً، خصوصاً برنامج Pegasus (بيغاسوس) والتي سنتطرق إليها في تقريرنا) بعد الأزمة الداخلية الأخيرة، عاد النقاش في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ليتصدر المجالس الحقوقية والإنسانية في المنطقة، مسلطاً الضوء على التاريخ الحافل بالإنتهاكات لحقوق الإنسان وحقوق الصحفيين جراء استخدام تقنيات الإختراق السيبراني الإسرائيلية بحق الناشطين والإعلاميين العرب في بلادهم وخارجها أيضاً، كأفراد وكمؤسسات، بعد الزوبعة التي أثارتها قضية إختراق تطبيق واتساب في العام 2019 وإتهام شركة NSO بالوقوف خلفه. ولذلك يتضمن تقرير اللجنة "حرية الصحافة وحقوق المدافعين عن الحريات في الشرق الأوسط: رهائن في قبضة شركات التجسس الإسرائيلية وحكومات بلادهم" بعضاً من أبرز الإنتهاكات المتعلقة بالحق في حرية الرأي والتعبير والحق في حرية الصحافة والنشر والحق في الحفاظ على الخصوصية المرتكبة بحق صحفيين، إعلاميين، وناشطين حقوقيين ومدافعين عن حقوق الإنسان في أبرز دول الخليج العربي والمغرب، على أن تتابع هذه القضايا ويتم تسليط الضوء على ما سقط منها من الحالات الموثقة والمؤكدة عبر المزيد من الأبحاث والدراسات والتقارير لتسليط الضوء على الواقع المظلم الذي تفرضه شبكات التجسس والإختراق الرقمي من قبل الشركات والبرمجيات الإسرائيلية على حياة الصحفيين والناشطين الحقوقيين في بلاد الخليج العربي والمغرب، كما في غيرها من دول المنطقة، وما يفرضه من واجب قانوني وأخلاقي وإنساني على المنظمات والجهات الدولية والإقليمية والمحلية المعنية بتطوير سبل حماية ودعم الصحفيين وصون الحريات العامة، وفي مقدمها الحق في حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة.
توطئة
على الرغم من تأكيد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ان مراقبة الأشخاص بناء على ممارستهم أي من حقوقهم الإنسانية فقط هو هجوم تعسفي أو غير قانوني على خصوصيتهم ينتهك حقهم في حرية التعبير (الجمعية العامة للأمم المتحدة، 1966)، فإن التجسس على الصحفيين والإعلاميين ليس وليد العصر الحديث فحسب، بل يعود إلى عشرات السنين حيث أثبتت سلطة الإعلام، الرابعة كما تسمى، انها قادرة على كشف الكثير من الحقائق التي أرادتها السلطات مخفية، كشف المغالطات وقضايا الفساد، التأثير على توجهات الرأي العام، بما يضر بأهداف الأنظمة السياسية القائمة أو يخدم أهدافها بطرق لا ترتضيها أحياناً. ومع ثورة المعلوماتية مع نهاية القرن العشرين ونمو قطاعات تكنولوجيا الاتصالات وتطورها السريع مع إنتشار خدمات شبكة الإنترنت واجتياح مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، إنستغرام، تيليغرام وغيرها من المنصات التي تسمح بالتبادل السريع والفوري للمعلومات والأخبار)، زادت حالات الإنتهاكات بحق الصحفيين والناشطين الحقوقيين في الحفاظ على خصوصيتهم وسرية مصادرهم.
ولما كانت الشركات الإسرائيلية من الأبرز والأكثر تطوراً في العالم في مجال صناعات الأمن الإلكتروني والسيبراني، حيث تقدر قيمة الإستثمارات فيها بحوالي 82 مليار دولار أميركي، توجهت العديد من الحكومات في العالم لطلب خدماتها "السيبر-أمنية" (Vadakkanmarveettil, 2020). ولكن وعلى الرغم من تأكيدات الشركات الإسرائيلية في إعلاناتها الدائمة أن هدف تصدير خدماتها الى الجهات الحكومية، والتي تتم بموافقة ومتابعة وزارة الدفاع الإسرائيلية مباشرة، إنما تهدف لمساعدة "الحكومات على حماية أمنها والأمن العالمي عبر متابعة الإرهابيين لإفشال مخططاتهم وفضحها وأنه إذا أساءت الدول استخدام أدواتها، فإن آلياتها لتوخي الحرص الواجب لمراعاة حقوق الإنسان تكفي للتحقيق وعلاج سوء الاستخدام". ووفقاً لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، فإن الشركة الإسرائيلية تدعي أنها "تحترم كافة القوانين الإسرائيلية ذات الصلة المتعلقة بتصدير الأسلحة، والتي تغطي الأدوات السيبرانية الهجومية مثل برامج التجسس والأنظمة المحتملة للاستخدام المزدوج، كما هو منصوص عليه من قِبل هيئة تنظيمية تعمل داخل وزارة الدفاع الإسرائيلية. وأشار تقرير صادر عنه إلى أن قطاع الأمن السيبراني يشكل ركيزة أساسية في الاقتصاد الإسرائيلي تصل إلى حوالي 20% من الإستثمارات العالمية في هذا المجال، ويصدر ما قيمته 4 مليار دولار أميركي من المنتجات والخدمات ذات الصلة، مباشرة أو عبر شركات فرعية أوروبية، ومنها إلى دول الخليج العربي، حيث تتوق الكثير من الشركات الإسرائيلية حالياً إلى المزيد من الاستثمارات، خصوصاً في مدينة التكنولوجيا المستقبلية في المملكة العربية السعودية "نيوم" (NEOM) (Zilber, 2019). ولكن، في ظل غياب الشفافية الكافية بشأن التحقيقات في حالات سوء الاستخدام الموثقة وآليات توخي الحرص الواجب، كثيراً ما ينتهي الأمر بإستخدام هذه التقنيات في التجسس على صحفيين، إعلاميين، وناشطين حقوقيين ومدافعين عن حقوق الإنسان في العديد من دول العالم "المثيرة للجدل" في سجلها الحقوقي، مثل المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، مملكة البحرين، المغرب، المكسيك، تايلاند، رواندا، ويتم التستر عليها بحجة حماية حق "العميل" بالسرية والخصوصية (Marczak, Scott-Railton, McKune, Abdul Razzak, & Deibert, 2018.
وعلى الرغم من أن مجموعة NSO تأسست منذ العام 2010 وافتتحت مقرها شمال تل أبيب، إلا أن الإعلام العربي ضج بها بشكل لافت في شهر آب-أغسطس 2016، بعد محاولة السلطات الإماراتية إستخدام برمجية "بيغاسوس" (الذي تطوره المجموعة) لاختراق هاتف الحقوقي الإماراتي البارز أحمد منصور الذي انتهى به الأمر معتقلاً على خلفية ممارسته حقه في حرية الرأي والتعبير المكفولة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (العربي، 2019). فقد كشفت محاولة اختراق هاتفه (iPhone) حينها عن التعاون بين الإمارات العربية المتحدة وشركة NSO الإسرائيلية القائم منذ العام 2013 (في الوقت الذي لم تكن قد أعلنت الدولتان فيه تطبيع العلاقات علناً والذي حصل في أيلول-سبتمبر 2020). ووفقاً لتقرير "نيويورك تايمز"، بعد شراء الإمارات لبرمجية "بيغاسوس" منذ العام 2013 وما اعتبرته إدانة دولية حقوقية لتجسسها على هاتف منصور، تابعت NSO تعاونها مع الحكومة الإماراتية وباعتها المزيد من خدمات البرامج التجسسية بملايين الدولارات. وفي ظل التمادي بالتغاضي عن هذه الانتهاكات دولياً ومع الأرباح الطائلة التي تجنيها هذه البرمجيات، توسع قطاع الأمن الرقمي، وبرزت المزيد من الشركات المنافسة، ولعل أبرزها ما حصل مع شركة NSO الإسرائيلية نفسها، التي تفاجأت بسلسلة استقالات لموظفيها (وجميعهم من قدامى وحدة الإستخبارات في الجيش الإسرائيلي 8200، المعروفة بـSIGINT )، تابعتهم عبر محققين خاصين لتكتشف انتقالهم الى مكتب شركة إقليمية في قبرص تابعة لشركة Dark Matter الإماراتية، بعد حصولهم على عروضات برواتب خيالية لـ " تطوير تكنولوجيات وبرمجيات لصالح الإمارات، ولتنفيذ عمليات قرصنة وتجسس ضد "خصوم الدولة"، في الداخل والخارج" (بينهم دول (قطر، تركيا، إيران) ومعارضون داخل الإمارات) (Marczak, Scott-Railton, McKune, Abdul Razzak, & Deibert, 2018, Mazzetti, Goldman, Bergman, & Perlroth, 2019).
هذا وتتجه الشركات العالمية، وبالأخص الإسرائيلية، لتركيز مراكز أبحاثها لتطوير العمل على ثغرات مثل Zero-Click وثغرات أكثر تعقيداً لتفادي الجهود البحثية والتحقيقية، ما يحتم أيضاً وسائل مراقبة وتحر أكثر تطوراً وقدرة على الكشف والرصد. وقد أكد TheCitizenLab (مركز أبحاث تابع لجامعة تورونتو في كندا) عن إحصاء مختبراته ما لا يقل عن 50 حالة معروفة علناً من صحفيين وغيرهم من العاملين في القطاع الإعلامي ممن استهدفتهم برامج تجسس مجموعة NSO الإسرائيلية (Marczak, Scott-Railton, Al-Jizawi, Anstis, & Deibert, 2020).
وإذ تتصدر شركات الأمان الإسرائيلية، وبالأخص NSO، أهم الشركات العالمية الضالعة في تصنيع وتطوير برمجيات إختراق الأجهزة الإلكترونية وتنفيذ الهجمات السيبرانية، ولما كان بارزاً تعاون العديد من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مع شركات برمجيات التجسس الإسرائيلية رغم تاريخ العديد منها الحافل بالإنتهاكات لحقوق الإنسان عموماً، وحقوق الصحفيين خصوصاً، وتسجيلها العديد من حالات الإعتقال بحق ناشطين حقوقيين وصحفيين على خلفية ممارستهم حقهم في حرية الرأي والتعبير المصون في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة 19 منه على وجه الخصوص)، يشير مكتب الرصد في لجنة الدعم الصحفيين (JSC) في هذا التقرير إلى أبرز الحالات الموثقة لإستخدام هذه البرمجيات الإسرائيلية لإختراق خصوصية صحفيين وناشطين حقوقيين من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خصوصاً في دول الخليج العربي والمغرب، سواء داخل دولهم أو خارجها أيضاً.