2022-04-12 12:35
مع بدء حقبة "الحقائق البديلة" وعصر "ما بعد الحقيقة" كما يحلو للباحث بنكلير ورفاقه (2018) تسميتُهما، بدت الحاجة ملحّة لتأطير عمل متقصّي الحقائق بغرض مكافحة ما ينبثق عن "مجتمع المعلومات المضلّلة"، على حدّ وصف الباحث بيكارد (2016).
بمعنى آخر، عندما أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي حاضنة لملايين الأشخاص ومصدرًا أساسيًّا للحصول على المعلومات؛ ومنذ تحوّل الإعلام التقليدي من وسيلة تبحث عن الحقيقة بدقّة ومهنية وتسعى للوصول على مصدر المعلومات وتقاطعها، إلى وسيلة هي في حالة سباق دائم مع الوقت وتسعى إلى السبق الصحفي وزيادة المشاهدات على حساب المهنية والدقّة والحقيقة، ظهر دور مدقّقي المعلومات. وتُشير دراسات أجريت في السنوات الأخيرة إلى أنّ تقصّي الحقائق انتشر بشكل كبير في السنوات الفائتة، ليرتفع استخدامه منذ عام 2001، بنسبة تبلغ أكثر من 900% في الصحف و2000% في وسائل الإعلام المرئية، وفق أمازين (2013). كما برزت أيضًا منصّات مستقلة تعمل بجدّ لكشف الزيف والتضليل.
وفي ظلّ التدفّق الجنوني للمعلومات في عصر يُغيّب فيه المنطق وتُستبعد الحقيقة، يخطر لي استحضار كتاب "المجنون"، للفيلسوفُ اللبنانيّ، جبران خليل جبران، الذي يروي فيه قصة الملك الحكيم. وهو ملك جبار وحكيم كان يسكنُ في إحدى المدن النائية. وكان في ساحةِ تلك المدينة، بئر يتوسّطها ويشرب منه السكان، إلّا أنّ ساحرة ألقت فيه خلسة سائلًا يُصيب كلّ من يَشربُ منه بالجنون. وعندما شرب سُكّان المدينة ماءَه، أصيبوا جميعهم بالجنون، باستثناء الملك ووزيره اللذين لم يشربا منه، ما دفع السكان لاعتبارهما مجنونين. لذلك، قرّرا بعدها الشرب من ماء البئر كي يصبحا مثل رعيّتهما، التي هلّل وفرح أفرادُها لأنّ ملكهم عاد إلى رشده.
وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي ليست سوى ماء هذا البئر، وروّادها ليسوا إلّا أشخاصًا مصابين بالظمأ، أخذهم جنون المعلومات المتدفِّقة، فما عادوا قادرين على تمييز الصائب من الخاطئ فيها. وكي لا يُضطرّ الشعب للتحوّل إلى "مجانين" وكي لا يسير "الملك" على خطاهم، لابدّ من تكريس دور متقصي الحقائق، للسعي وراء كشف الأخبار الزائفة والمضلّلة للرأي العام، نظرًا لانعكساتها السلبية على المجتمع والأفراد.
فالهدف من هذه المدوّنة لا يعدو كونها لتسليط الضوء بشكل موجز على طبيعة عمل متقصي الحقائق في مناسبة يومهم العالمي. فعملهم يحتاج للموهبة والمهارات المطلوبة في الوقت عينه، إذ إنّ استخدام منهجية واضحة في البحث تستند على أدوات متاحة لهم يساعدهم على الوصول إلى الحقيقة، ولكن بالموهبة فقط يستطيعون رصد الأخبار الزائفة مباشرة والتشكيك في صدقية خبر أو صورة أو مقطع فيديو. فشغلهم الشاغل هو التأكّد من سلامة المضمون المتاح على الشبكة العنكبوتية وعلى وسائل الإعلام التقليدية ومواجهة التضليل والزيف بالحقائق.
ويواجه متقصو الحقائق أنواعًا مختلفة من المعلومات تأتي على شكل معلومات مضللة عادة ما تكون غير مقصودة، ومعلومات زائفة تأتي ضمن عملية ممنهجة وغالبًا ما تندرج تحت أيديولوجيات معينّة لتزوير الحقائق والتلاعب بالرأي العام. كما تأتي على شكل إثارة لتحصد الأرباح المالية من خلال الإعلانات أو عدد المشاهدات والمتابعات، وغاليًا ما تتقنّع الإثارة بعناوين رنّانة وجاذبة تخالف مضمون النصّ المطروح.
فمع اندثار دور الصحفيين ك"حرّاس البوابة" (gatekeepers) الذين يسمحون فقط بعبور المعلومات الدقيقة والصحيحة، وصعوبة تأديتهم لهذا الدور في عصرنا الحالي، صارت الحاجة ملحّة أكثر من أي وقت لوجود مدققي المعلومات للمرور على تفاصيل المعلومات الواردة في الأخبار ومراجعتها لضمان صدقيّتها. ويقول الصحفي والناشر الأشهر في زمانه، جوزيف بوليتزر في وصفه الدقّة والحقيقة، إنّه على الصحفي التركيز على أدقّ التفاصيل من الأسماء والأمكنة المذكورة إلى طريقة كتابتها، لأنّ الفشل في تقديم أبسط المعلومات في دقّة سيجعل القارئ غير قادر على تصديق المعلومات المهمّة في المادة التي يقدّمها الصحفي.
ونختم بالتشديد على دور مدققي المعلومات في البحث عن الحقيقة في مجالات عديدة ذات أهمية، الصحية منها والسياسيّة والاقتصادية والاجتماعية وتلك التي تتناول فئات مجتمعاتنا المهمّشة وتعرّضها للخطر والمزيد من الاضطهاد.
ا
لمصادر:
أمازين (2013) إحداث فرق: تقييم نقدي للتحقق من صحة الحقائق في عام 2012.
بيكارد (2016) الفشل الإعلامي في عصر ترامب
بنكلير ورفاقه (2018) الشبكة الدعائية: التلاعب والمعلومات المضللة والراديكالية في السيارسة السيارة السيارة
المصدر: كفاء مساعد-مسبار