2022-03-16 09:19
بدر حسن شافعي-معهد الجزيرة للاعلام
تحظى الصراعات والحروب باهتمام كبير من قبل وسائل الإعلام، بالنظر لمدى حجم الحدث: صراع أو حرب داخلية أم خارجية، وتداعياتها الكثيرة لا سيما على الصعيد الإنساني: قتلى، جرحى، تدمير مبان سكنية، نزوح، لجوء. ويضاف إلى ذلك التداعيات السياسية: بقاء أنظمة أو الإطاحة بها، وصول المعارضة للحكم أو الزج بها في غياهب السجون. وثمة أيضا النتائج الاقتصادية: فقر وبطالة، فاتورة داخلية أو خارجية تتحمل بعضها دول الجوار أو الدول المانحة، أو المؤسسات الدولية كصندوق النقد، والبنك الدولي، ناهيك عن الأبعاد الاجتماعية والثقافية خاصة في الحروب الأهلية ذات الطابع الإثني حيث يسعى كل طرف لمحو هوية وثقافة الطرف الآخر.
وتتباين بل وتتبارى أيضا وسائل الإعلام في التعامل مع الصراعات والحروب، فبعضها يعمل على إرسال مراسلين إضافيين لتغطية الحدث، وفتح تغطية مستمرة قد تستمر أياما أو أسابيع، في حين تكتفي وسائل إعلام أخرى بمراسليها الموجودين بالفعل في منطقة الصراع، والاهتمام بالتغطية في صدر النشرات، لكن دون الجور على باقي الأحداث الأخرى في مناطق العالم الأخرى، التي تهم مشاهديها.
صحيح أن هذه التغطية تحتاج إلى تخطيط، وتأمين لوجيستي لفرق العمل الميداني، لكن هناك تساؤل هام أيضا عن المصطلحات المستخدمة لتوصيف هذا الصراع أو ذاك، والأسس التي يتم الاستناد إليها في اعتماد مصطلح ما، وهل هناك معايير علمية مضبوطة تحكم استخدامها، أم هي اجتهادات واقتراحات "تحريرية" فقط لا تستند لأسس معينة، أو توجهات مالكي الوسيلة الإعلامية، المرتبطة بتحديد سياستها اتجاه هذا الحدث أو غيره، لأنها من المؤثرين أو المتأثرين به، الأمر الذي يتنافى مع فكرة "الحياد الإعلامي".
لماذا في بعض الحالات كالحرب في اليمن تستخدم الوسيلة الإعلامية الواحدة مصطلح "ميليشيا" الحوثي في مرحلة من المراحل، والتي تعني أنها جماعة غير نظامية تحمل السلاح ضد الدولة، ثم مصطلح "جماعة" الحوثي في مرحلة أخرى، وبعدها مصطلح "الحوثيين" في مرحلة ثالثة، وما الذي تغير لاستخدام ثلاثة مصطلحات لوصف طرف ما من أطراف الصراع؟
بداية من المهم القول إنه بصفة عامة في العلوم الإنسانية ومنها السياسية، لا يوجد صواب وخطأ في تحديد المصطلحات، بيد أنه يوجد فاضل ومفضول، صائب وأصوب. وكلها تندرج في إطار الاجتهادات المشروعة. لكن السؤال هو: هل تتم هذه الاجتهادات العلمية داخل غرف الأخبار؟ وهل هناك وحدات متخصصة منوطة بذلك؟
سنأخذ نموذجا واحدا فقط باعتباره الأحدث وهو حالة روسيا وأوكرانيا.
وفق المصطلحات السياسية وعلم تسوية الصراعات conflict settlement، فإن الصراع conflict أشمل من الأزمة crisis، والأزمة هي إحدى مراحل الصراع الست التي تبدأ بالمشكلة أو القضية موضوع الصراع Question، مرورا بالمشكلة Problem. وتعني صعوبة التوصل للتفاهم بشأنها، فالتوتر Tension، وصولا للتهديد Threat من خلال رفع الاستعداد أو الحشود على الحدود أو التهديد بعقوبات اقتصادية أو قطع معونات، وصولا للأزمة، التي غالبا ما تحدث فجأة وتنطوي على غموض في المعلومات، وانتهاء بالحرب المسلحة وهي المرحلة الأخيرة من الصراع (1).
ولما كان الحاصل بين أوكرانيا وروسيا، ليس وليد اللحظة، وإنما يرجع لعام 2004، منذ الثورة البرتقالية ضد الرئيس يانوكفيتش الموالي لروسيا، واستمرار الصراع بين الجانبين الذي وصل ذروته العام 2014 بعد الإطاحة به والتدخل الروسي وضم القرم، وإعلان دونيتسك ولوهانسك الانفصال.. فإنه يصعب القول بأننا أمام أزمة، لأن من مميزات الأزمة أنها مفاجئة ويكتنفها الغموض "كأزمة حصار قطر 2017"، وإنما نحن أمام صراع ممتد متعدد الأوجه": سياسي يتمثل في السعي لهيمنة بوتين على دول الجوار وإعادة إحياء المجد السوفييتي، وإن بصورة أخرى، وصراع عسكري يتمثل في الرغبة في الحيلولة دون تحول كييف لدولة نووية، ومنع وصول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية للحدود الغربية لروسيا، فضلا عن صراع اجتماعي بين الأغلبية الروسية في شرق أوكرانيا، والأوكرانيين في كييف وغرب البلاد، إلى جانب الصراع الاقتصادي المتمثل في رغبة موسكو في استمرار هيمنتها على كييف التي يمر بها أحد أهم خطوط الغاز لأوروبا.
بناء عليه، قد يكون الأدق القول: الصراع الروسي الأوكراني وليس الأزمة الروسية الأوكرانية، اللهم إلا إذا نظرنا إلى أن الأزمة بدأت منذ نهاية العام الماضي فقط، مع إعلان الرئيس الأوكراني زيلينسكي رغبته في الانضمام لحلف النيتو مجددا. وحتى هذا التحول لا يعد أزمة، لانتفاء صفتي المفاجأة والغموض، لأن هذا الطلب الأوكراني ليس جديدا. الملاحظ أن بعض وسائل الإعلام العربية الكبرى تصف ما حدث بـ "الأزمة الروسية الأوكرانية"، بل وبات الأمر "ترند" على تويتر. وعندما تسأل القائمين عليها عن سبب استخدام مصطلح "الأزمة" الضيق، وعدم استخدام مصطلح "الصراع" الأشمل، تستنج أنهم يعتبرون ما يجري وقع فجأة، وهو ما يناسب مصطلح الأزمة؟ وهنا ربما يظهر الفارق بين الإعلامي والباحث المتخصص، فالأول ربما ينظر للحدث كخبر مفصول عن سياقه التاريخي سواء الحديث أو المعاصر، رغم أهمية هذه السياقات في فهم الحدث، وبالتالي تغير طريقة طرحه للمشاهد. أما الثاني، فربما ينظر للأمور بنظرة أعمق، بحثا عن أفضل وأدق مصطلح.
قد يكون مفهوما أن الإعلام يهتم بالسرعة، والسبق، لكن ينبغي أيضا ألا يكون على حساب المصداقية أو الدقة في استخدام المصطلحات التي تكون لها دلالة لدى المتلقي في فهم توجهات الوسيلة الإعلامية سواء أكان ذلك عن قصد (توجه مقصود من مالكيها أو إدارة تحريرها)، أم عن غير قصد منها.
يرتبط بذلك أيضا توصيف التدخل الروسي في أوكرانيا: هل يمكن توصيف ما حدث بأنه حرب مسلحة على اعتبار الحرب تشكل المرحلة الأخيرة للصراع كما سبق القول، أم وصفه بالصراع بالنظر إلى الخلفيات والسياقات السابقة بين الجانبين، بالإضافة إلى أن الصراع أكثر شمولا، يتضمن في ذاته الحرب كمرحلة أخيرة من مراحل تطوره. بعض وسائل الإعلام التي تبنت ابتداء مصطلح الأزمة، وصفت ما حدث بالحرب، في حين أن الأدق وصفه بالصراع لأن جذوره تمتد لعقود وأبعاده متشابكة.
إن أية محاولات للوساطة بين روسيا وأوكرانيا سواء من قبل منظمات دولية، أو حتى دول كبرى مثل ما حدث من وساطة ألمانية وفرنسية في صراع 2014، أفضت لاتفاق مينسك 2015، توصف بأنها محاولة لتسوية الصراع، أي وقف أسبابه الظاهرة دون التوصل لحله conflict resolution من كل أبعاده السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية. ومن ثم قد يكون من الأصوب القول: "تسوية الصراع" وليس "حل الصراع"؛ لأي جهد من جهود الوساطة. ويدخل في إطار التسوية وقف إطلاق النار، نشر قوات حفظ سلام... إلخ، أما مفهوم حل الصراع فيرتبط دائما بمفهوم بناء السلام أي القضاء على جذور الصراع نهائيا كما حدث في رواندا وسيراليون وكمبوديا وغيرها. وهذا غير وارد حتى اللحظة في الحالة الروسية الأوكرانية.
يشير ما سبق إلى أن وسائل الإعلام بقدر اهتمامها بالشكل الخبري، وكيفية عرض الحدث، لا بد أن تهتم أيضا بضبط المصطلحات، الذي يدخل في إطار ضبط المحتوى. ومن المفيد أن تؤسس وحدة متخصصة لضبط المصطلحات، لا سيما في الأحداث الطارئة، وعملية توصيفها يشرف عليها أكاديميون متخصصون، أو إعلاميون يجمعون بين الخبرة الإعلامية، والعمق الأكاديمي، ويمكن توسيع مهام هذه الوحدة، لكي تعد دليلا STYLE BOOK للوسيلة الإعلامية عن مصطلحات الصراع والحرب، وما يرتبط بها من مصطلحات أخرى خاصة ما يتعلق بعملية التسوية ونوعها، والفرق بين التسوية السياسية الدبلوماسية، والقانونية بشقيها: التحكيم والقضاء الدولي، وهل هناك فروق بينهما، وما هي إجراءات الاحتكام إليهما، وماذا عن إلزامية القرارات الصادرة عنها، ثم التسوية القسرية "العسكرية"، ومتى يتم اللجوء إليها، وما هي الجهة المنوط بها ذلك، هل هي الدول منفردة، أم المنظمات الدولية كالأمم المتحدة، وماذا عن المنظمات الإقليمية الفرعية كحلف الناتو وغيره، هل يمكن التدخل دون موافقة الأمم المتحدة وهل ما سيتم إرساله من قوات بهدف منع الصراع، أم تسويته، أم فرضه، وهل هذه القوات هي قوات حفظ سلام، أم في مهام سلام؟ وغير ذلك من المصطلحات الهامة التي قد يعرفها بعض الإعلاميين، ويجهلها آخرون. وبالتالي فإن وجود هذه الوحدة ليس من قبيل الترف، كما أن وجود مستشار أو مجموعة من المستشارين السياسيين للمؤسسة الإعلامية يكتسي أهمية لتحديد الأسس العلمية في التعامل مع الصراعات والحروب محل التغطية.
[1] - د. جمال سلامة، تحليل العلاقات الدولية. دراسة في إدارة الصراع الدولي (القاهرة: دار النهضة العربية، ط 1، 2013) ص 68- 70