هل يستطيع "نشطاء الإنترنت" إحداث التغيير في المجتمع؟ وما دور وسائل الاعلام في مكافحة انتشار الاخبار الزائفة وقطع "أكسجين التضخيم" عنها؟

2022-03-03 12:48

التقارير

كيف يُحدث "نشطاء الإنترنت" التغيير في المجتمع؟

ريتشارد فيشر-ترجمة وتحرير: نون بوست

لئن قلل الكثيرون من شأن العمل السياسي عبر الإنترنت، إلا أنّه في الحقيقة أكثر فاعلية مما يُعتقد. نلمس اختلافات كبيرة بين اليسار واليمين في توظيف هذا النوع من العمل السياسي لنشر الأفكار.

يعتبر البعض أنّ هذا النشاط الافتراضي هو أكثر أنواع العمل السياسي كسلا على الإطلاق. يعبّر هؤلاء "الناشطون الكسالى" على وسائل التواصل الاجتماعي عن دعمهم لقضية ما، عبر تغيير صورة الملف الشخصي، أو إعادة نشر تغريدة، أو استخدام هاشتاغ متداول. 

يعرّف قاموس إيربن العمل السياسي عبر الإنترنت على أنه "اقتناع الشخص بفكرة خادعة مفادها أنه يقدم شيئا ما من خلال الإعجاب بمنشور أو مشاركته أو إعادة نشر تغريدة".

ولكن هل مثل هذا "النشاط السياسي الكسول" أو العمل السياسي عبر الإنترنت، عديم الفائدة؟ تدل المؤشرات يوما بعد يوم أن النشاط السياسي عبر الإنترنت أكثر فعالية مما قد يتصوره كثير من الناس. وتشير الأبحاث الحديثة إلى أن كلا من اليمين واليسار يستغلان هذا النوع من العمل السياسي بطرق مختلفة، وغالبًا ما تكون خفية، لنشر معتقداتهم وأفكارهم.

اقترن العمل السياسي على الشبكة بصيت سيء. قال أحد المعلقين قبل عقد من الزمن: "النشاط عبر الإنترنت مقارنة بالعمل السياسي، مثل وجبات ماكدونالدز السريعة مقارنة بالطعام المطبوخ على نار هادئة. تشبه الوجبة السريعة الطعام العادي، لكنها خالية من العناصر الغذائية المفيدة". 

وفي العام الماضي، قال الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما إن النشاط السياسي على وسائل التواصل الاجتماعي - وخاصة ما أصبح يُعرف بثقافة "الاستيقاظ"- لا يمكنه أن يكون بديلاً عن منظمات المجتمع المدني أو الاحتجاج في الشارع.

وحسب رأي أوباما، فإن فكرة إحداث التغيير عبر "إطلاق الأحكام على الآخرين، والاكتفاء بذلك، لا يُعتبر نشاطا سياسيا، ولا يحدث أي تغيير. إذا كان كل ما تفعله هو إلقاء اللوم على الآخرين، من المرجح أنك لن تذهب بعيدا".

ربما يكون ذلك صحيحا. لكن دين فريلون وزملاءه في جامعة ولاية كارولينا الشمالية في تشابل هيل، يرون في ورقة بحثية جديدة نُشرت في مجلة ساينس، أن العديد من الانتقادات الموجهة للنشاط السياسي عبر الإنترنت تستند إلى افتراضين خاطئين. 

يقول دين فريلون: " أحد أكبر المفاهيم الخاطئة هو أن العمل السياسي على الشبكة لا يحقق أي تغيير. أما المغالطة الثانية فهي أن هذا النوع من العمل السياسي يلغي النشاط السياسي العادي أو يحل محله. ونحن نعلم أن كلا الأمرين غير صحيح".

photo

الاعتقاد بأن النشاط السياسي على الانترنت يلغي الاحتجاجات والأنشطة السياسية الأخرى فكرة خاطئة (المصدر: غيتي)

تشير الأدلة التي جُمعت على مدار العقد الماضي إلى أن النشاط السياسي عبر الإنترنت يلعب في العموم دورا مهما في نشر الأفكار غير المعروفة وغير السائدة. صحيح أن تغريدة واحدة أو نشر فكرة ما مرة واحدة لن يغير العالم، لكن يمكن للآلاف من التغريدات أن تفعل ذلك. يقول فريلون إن "النشاط السياسي عبر الإنترنت له تأثير كبير من حيث تقديم البدائل والخيارات المختلفة للجمهور".

وفقًا لبحث أجري في السنوات الأخيرة، اعتمدت حركات مختلفة في الولايات المتحدة والعالم، مثل "احتلوا وول ستريت" و"حياة السود مهمة" و"أنا أيضا"، ودعاة اليمين المتطرف المناهض للهجرة، وحركات حقوق الإنسان، على النشاط عبر الإنترنت لتحقيق أهدافها.

كما تشير الدراسات إلى أن الأشخاص الذين يشاركون بقوة في العمل السياسي الافتراضي يفعلون الشيء ذاته في الواقع. يتكامل نشر المضامين السياسية على وسائل التواصل الاجتماعي مع حضور الاجتماعات والتبرع للحملات والأشكال الأخرى من العمل السياسي.

يقول فريلون إن "معظم الحركات الفاعلة سياسيا في القرن الحادي والعشرين تعمل بفعالية على الجبهتين".

ساهم النشاط السياسي الافتراضي في نشر مصطلحات جديدة، جيدة وسيئة. على سبيل المثال، قبل عقد من الزمن، اقتصر استخدام مصطلح "أنصار العولمة" على بعض المواقع اليمينية المتطرفة على الإنترنت. ولكن الباحثين اكتشفوا من خلال تحليل النصوص، أنّ الجهود التي بذلها النشطاء اليمينيون على الشبكة قد ساهمت تدريجيا في انتشار هذا المصطلح في عدة مواقع على غرار شبكة بريتبارت الإخبارية، قبل أن تستخدمه فوكس نيوز، ويستعمله الرئيس الأمريكي الحالي في خطاباته. 

وجد الباحثون أن ما يسمى بالمواقع الإخبارية الموالية للأحزاب، مثل موقع بريتبارت ومجلة "كومباكت" الألمانية و"نيهتر آيداغ"، يمكن أن تكون بمثابة "جسور" لنشر وجهات النظر اليمينية المتطرفة. (وكما كشفت بي بي سي فيوتشر مؤخرًا، غالبًا ما ينسى الناس أصل هذه الأفكار، وهو ما يُعرف بـ "فقدان الذاكرة الجماعي").

photo

يعتبر تداول الهاشتاغ في الغالب سمة من سمات اليسار حسب ما أكدته البحوث إلى حد الآن (المصدر: غيتي) 

ومن المثير للاهتمام، أن البحوث تؤكد أن اليمين واليسار يعتمدان تكتيكات مختلفة في نشاطهم السياسي عبر الإنترنت، على الأقل في الولايات المتحدة. ورغم أن الأمر يبدو مبالغا فيه، تفيد الدراسات حتى الآن أن الطريقة الأكثر تداولََا بين النشطاء اليساريين لنشر الأفكار هي الهاشتاغ. في المقابل، يعتمد النشطاء اليمينيون- وخاصة اليمين المتطرف، الذي يرى فريلون أن شعبيته زادت على وسائل التواصل الاجتماعي الأمريكية في السنوات الأخيرة - طرقا أكثر تعقيدا، تُعرف باسم "التداول المتسلسل"، وتعمل كالآتي: نشر قصة أو رأي أو حتى فكرة في موقع إخباري صغير، أو على مواقع التواصل الاجتماعي، ثم تشجيع المتابعين على مشاركتها، وانتظار أن يراها جمهور أكبر، قبل أن تصل لاحقا إلى المواقع الكبيرة أو محطات التلفزيون.

تقول كلير واردل، من شبكة "فيرست درافت نيوز"، وهي منظمة غير ربحية تم إنشاؤها لمكافحة الأخبار الكاذبة، إن المعلومات المغلوطة تتّبع مسارًا مشابهًا. فالخبر الزائف يبدأ على منصات خاصة مثل تطبيق واتس آب، قبل أن يتحوّل إلى محتوى يروّج لنظريات المؤامرة على ريديت أو يوتيوب، ثم إلى منصات اجتماعية أخرى على غرار تويتر أو فيسبوك، وبعد ذلك، كل ما يتطلبه الأمر هو صحفي ساذج يعمل في موقع معروف، يلتقط هذه الأخبار الكاذبة، وتصل حينها إلى الآلاف أو حتى ملايين الأشخاص.

وحتى إن كانت وسائل الإعلام الرئيسية تحاول حجب الأخبار الزائفة، فإن الهدف قد تحقق. تقول واردل إنه بالنسبة للعديد من النشطاء، يعتبر "فضح زيف تلك الأخبار أفضل من لا شيء. إنه يوفر الأكسجين". في الواقع، إذا كان المزيد من الأشخاص يبحثون عن تلك القصة الزائفة، فهذا يعني أن عددا أكبر من الناس سيكتشفون أفكار النشطاء أو أخبارهم أو معتقداتهم. هذا ما تسميه عليه الباحثة في جامعة سيراكيوز الأمريكية، ويتني فيليبس، "أكسجين التضخيم".

photo

صور مفبركة لعودة طيور البجع إلى قنوات مدينة البندقية خلال الأشهر الأولى من انتشار الوباء، استغلها بعض النشطاء لترويج أفكارهم.

ينشر بعض النشطاء رسائلهم الخفية ضمن محتوى سريع الانتشار، ويسهل أن ينطلي الأمر حتى على مستخدمي الإنترنت الأكثر ذكاء. على سبيل المثال، وخلال الشهر الماضي، نشرت مارسيا أليسون من جامعة كاليفورنيا الجنوبية ورقة بحثية تصف فيها كيف يستخدم النشطاء الفاشيون صورا مفبركة لحيوانات بهدف  نشر أفكارهم. خلال الحجر الصحي جراء انتشار فيروس كورونا، ظهرت عبر الإنترنت العديد من الصور المفبركة لحيوانات يُفترض أنها عادت إلى أماكن غير مأهولة، من الأغنام الويلزية التي تلعب في حديقة للأطفال إلى الدلافين التي تسبح عبر القنوات المائية في مدينة البندقية.

استخدمت مجموعة من نشطاء اليمين المتطرف المدافعين عن البيئة والذين يؤمنون العرق الأبيض، هذه الصور كطريقة لربط أيديولوجيتهم العنصرية بمحتوى منتشر عبر الإنترنت.

استخدم هؤلاء النشطاء الفاشيون هذا التكتيك في منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل، مثل صور شجرة الصنوبر والأرض والجبال، مصحوبة برموز يمينية متطرفة مثل الأحرف الرونية الإسكندنافية مع هاشتاغات تعكس أفكارهم.

بهذه الطريقة، قد يساهم نشطاء حماية البيئة المعتدلون في نشر حسابات فاشية وهاشتاغات متطرفة عن غير قصد، ويسمحون لدعاة الفاشية الإيكولوجية أن يعثروا على بعضهم البعض. (لست أعلم إن كنت أساهم في نشر هذه الأفكار من خلال كشف زيف ذلك المحتوى، لكنني سأجادل بأن خطورة تلك الأجندة الخفية تبرر ما أقوم به).

لذا، فإن أولئك الذين يرفضون النشاط السياسي عبر الإنترنت، باعتباره عملا كسولا بلا قيمة، لا يدركون حقا قوة تأثير تلك الرسائل والأفكار التي تنتشر عبر العالم الافتراضي. 

يقول فريلون إنه لا يزال هناك الكثير من المعلومات التي نجهلها عن كيفية انتشار الأفكار في المجتمع من خلال النشاط السياسي عبر الإنترنت. وهناك مجالات واسعة لا يمكن للباحثين دراستها لأنها مغلقة وخاصة، مثل المجموعات على تطبيق واتس آب.

ولكن ما نعرفه هو أن النشاط السياسي عبر الإنترنت يمكنه أن يحدث تأثيرا بالغا، وقد فعل، وغالبًا بأساليب معقدة وخفية لا يدركها الكثير من الناس.

المصدر: بي بي سي فيوتشر