2021-12-08 12:48
(A press cartoon from the collection of Cartooning for Peace, an international network of socially-engaged editorial cartoonists, supported by UNESCO, © Semih Poroy (Turquie) - Cartooning for Peace (www.cartooningforpeace.org)
الصحافة الإستقصائية : الكشف عن الحقيقة رغم كلّ الصّعاب
تمثّل الصحافة الإستقصائية إحدى ضمانات المسار الدّيمقراطي. لكن مستقبلها غير مؤكّد : بدون استقلالية مالية، لن تصمد طويلا. وفي تجربة ري بلطيقا - وهو مركز للصحافة الإستقصائية في لاتفيا - مثال يقتدى به. (سانيتا جيمبرغا)
أشعر بالإنزعاج كّلما تم اعتبار الصحافة الإستقصائية بمثابة "المهمّة" أو "الموهبة". أنا أعتبرها، بكلّ بساطة، خيارا فرديا تولّده الضرورة، وتيسّره مجموعة من المهارات وشخصية متميّزة تتحلى بالمثابرة والتماسك في مواجهة المظالم أحيانا. وقد أوضحت زميلتي إنجي سبريزي ذات يوم أنها تمارس هذا العمل من أجل جدّتها التي ليست قادرة على مساءلة السلطات حول مواضيع معقدة !
لقد تم اختبار عزمنا أنا وسبريزي، في مواصلة مساءلة السلطات عندما تمّ بيع ديانا، وهي الصحيفة التي كنا نعمل فيها، من طرف ناشرها، بونيير (التكتل الإعلامي السويدي)، لأقليّة من المحليين ذوي النفوذ الذين كانوا قد حاولوا إسكات الصحيفة منذ سنوات عدّة. وقد حدث ذلك في خضم أزمة اقتصادية عميقة، وانهيار جمهور القراء ومبيعات الصحيفة، في وقت لم يتم فيه أخذ شبكة الإنترنت على محمل الجدّ، إلا بعد فوات الأوان.
ومن هنا كان تأسيس مركز البلطيق للصحافة الإستقصائية ري بلطيقا في عام 2011 بإدارة جمعية تعاونية من الصحفيين، مهمته تقديم نتائج تحقيقاته إلى وسائل الإعلام الرئيسية، مجانا.
لقد كان الوضع في لاتفيا يعكس بصفة عامة الأزمة التي بدأت تعاني منها صناعة الإعلام في جميع أنحاء العالم، حتى قبل ظهور فيسبوك وغوغل.
لكن الفارق هو أنّ مجموعة من الذين عملوا في صحيفة ديانا التي كانت تعتبر أفضل صحيفة في دول البلطيق، بقيت متمسكة بضرورة وجود الصحافة الإستقصائية في النظم الديموقراطية اعتبارا لدورها الأساسي في مساءلة من هم في السلطة. وينطبق هذا الأمر أيضا على البلدان التي تحكمها أنظمة استبدادية، حيث يتعرض الصحفيون المعنيّون لانعكاسات أخطر بكثير على المستوى الشخصي. ففي غياب الصحافة التحقيقية، علينا أن نكتفي بالأخبار اليومية، وبالمحتوى الحكومي مدفوع الأجر، والقيل والقال عن المشاهير. ومن ثم، فإنّ الصحافة لن تعمل كمؤسسة رقابية ضامنة، بل كالخادم المطيع لمن هم في السلطة.
واستعدادا للتغيير، أمضت سبريزي سنة في الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة النماذج غير الربحيّة للصحافة الإستقصائية ثم عادت إلى لاتفيا لتنشئ مركز ري بلطيقا(link is external). وكانت الفكرة جديدة نسبيا آنذاك في أوروبا، ولكن بحلول عام 2012، أصبح هناك بالفعل أكثر من 100 مركز غير ربحي في مجال الصحافة الإستقصائية في أكثر من خمسين بلدا.
توقّع الجميع أن يموت المشروع خلال عام، ولكن ثبت أنّهم كانوا على خطأ، وها نحن على أبواب الإحتفال بمرور ست سنوات على تأسيسه في أغسطس 2017. وهناك أسباب عديدة توضح كيف نجونا وتفسر نجاحنا.
السبب الأوّل ، هو القدرة على بذل الكثير من العطاء والغوص في خضم الأحداث. لقد أدركنا في وقت مبكر أنّه إذا كانت مداخيلنا تعتمد فقط على المانحين الدوليين (وهي بالنسبة إلى لغة قليلة التداول وسوق إعلاميّة فقيرة نسبيا، تشكّل المصدر الوحيد المتاح)، فلن ندومَ طويلا. لهذا السبب قررنا أن لا تفوق نسبة المنح 60٪ من ميزانيتنا وأن نوفر الباقي من دخلنا الشخصي المكتسب من التدريس والإستشارات والبحث وكتابة النصوص للأفلام الوثائقية. كما حصلنا على تبرعات من القراء والجهات المانحة الخاصّة. لكننا نبقى دائما غير واثقين في قدرتنا على الإستمرار بعد عام من الآن.
من الضروري العثور على الشركاء المناسبين. ونحن ساهرون على الإقتصاد في النفقات سواء في ما يتعلق بموقعنا على الإنترنت أو بمقر المركز. يتكون الفريق الدائم لمركز ري بلطيقا من محررين اثنين، ومصمّم، ومحاسب. ومن ثمّ نقوم بتوظيف غيرهم من صحفيين ومترجمين وفقا لاحتياجات مقال معين، وقد نصل إلى عشرين أو ثلاثين مساهما سنويا. إن انتاجنا متاح مجانا لجميع وسائل الإعلام التي ترغب في نشره. ولدينا أيضا مجموعة من الشركاء العاملين في التلفزيون والإذاعة والصحافة المطبوعة والإلكترونية الذين نتعاون معهم. وبما أنّ هذه المنافذ الإعلاميّة لا تتنافس فيما بينها مباشرة، يتضاعف انتشار الرسالة ومدى تأثيرها.
لا تقتصر الصحافة الإستقصائية على الكشف عن الفساد. لقد شاركنا في التحقيق حول وثائق بنما، ذلك التسريب الهائل لأكثر من 11،5 مليون وثيقة مالية وقانونية كشفت عن أسماء سياسيين ومجرمين وشركات محتالة في كل أنحاء العالم، وعن أماكن إخفاء أموالها. قد تصدّر هذا التحقيق العالمي الضخم برئاسة الإتحاد الدولي للصحفيين الإستقصائيين عناوين الصحف في كل أنحاء العالم في سنة 2016 وحصل على جائزة بوليتزر، وكان الأساس لقوانين جديدة تمّ إصدارها في عدد من البلدان.
جزء كبير من عملنا يركّز على أوجه عدم المساواة الإجتماعية في لاتفيا باعتبارها تشكّل أكبر تهديد للبلاد على المدى الطويل. ونقوم بمعالجة مجموعة من المشاكل الإجتماعية من بينها أوجه القصور في نظام التعليم والأجور الضعيفة المدفوعة للعاملين في المحلات التجارية الكبيرة. عملنا ليس دائما ممتعا وقد حصل أن اشتغل زملاء لنا في مصنع للأسماك لفضح ظروف العمال هناك.
وكشفت آخر تحقيقاتنا عن رجل أعمال لاتفي كان قد ورد اسمه في وثائق بنما وكان مرتبطا بالإنتخابات الفرنسية ِلعام 2017. ونحن بصدد الإعداد لسلسلة من المقالات لفضح الأخبار الزّائفة ومنابعها على شبكة الإنترنت في منطقة البلطيق.
أنا لست متفائلة جدا حول مستقبل الصحافة الإستقصائية. ولكنني مقتنعة بأنّ وصول الأنظمة الإستبداديّة إلى السلطة سيرفع من شأن الصحافة وذلك من خلال إبراز الحاجة لفصل الحقيقة عن «الوقائع البديلة»، والفصل بين التقارير المزيفة والتقارير الحقيقية. فقد أثبتت المنظمات غير الربحية أنها بديل محتمل لوسائل الإعلام الرئيسية في الوقت الذي تختفي فيه الصحافة الإستقصائية من مجالس التحرير.
إلا أن العديد من هذه المشاريع غير الربحيّة معرضة للاندثار اذ من المحتمل أن يتقلص اهتمام المؤسسات المانحة، كما أنّ الأعمال الخيرية أصبحت نادرة، خاصّة في البلدان التي هي في أمسّ الحاجة إلى التقارير الإستقصائية. لهذا، لا بد من الإعتراف بالصحافة الإستقصائية على أنها منفعة عامّة. وإن لم يتمّ توفير التمويلات اللازمة لها، فالأمل في بقائها سيكون محدودا للغاية.
كما يجب على المنظمات الدولية ، التي تحرص على تدريب الصحفيين وتمويل المؤتمرات والحملات، أن تنشئ آليات من أجل تمويل الصحافة الإستقصائية بطريقة علنية، صريحة وتنافسية باعتبارها منفعة عامّة، دون قيد أو شرط. تلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكن فيها للصحافة الإستقصائية أن تبقى على قيد الحياة.