بين الموضوعية ومناصرة قضايا "محقة": أين ينتهي عمل الصحفي ويبدأ دور الناشط؟ وهل يهدد كشف الصحفي لرأيه الثقة بمصداقيته وحياده؟!

2021-11-19 01:13

التقارير

أين ينتهي عمل الصحفي ويبدأ دور الناشط؟ (معهد الجزيرة للإعلام)

مقال مايكل بلاندينغ-المترجم بالتعاون مع نيمان ريبورتس - جامعة هارفارد 

في ربيع العام 2018، وفي اليوم التالي لمسيرة "من أجل حياتنا" الحاشدة المطالبة بفرض قانون لضبط حيازة الأسلحة في الولايات المتحدة، ظهرت على شاشة "سي.أن.أن" ريبيكا شنيد المحررة المساهمة في جريدة مدرسة "مارغوري ستونمان دوغلاس" بمنطقة بارك لاند في ولاية فلوريدا، وهي المدرسة التي أطلق فيها مهاجم النار وقتل 17 شخصا في فبراير/شباط 2018.

 

قال مقدم البرنامج براين ستلتر واصفًا شنيد وطلابًا آخرين من صحيفة "إيغل آي" المدرسية التي غطت الحدث "أرى كثيرا من طلاب بارك لاند قد أصبحوا نشطاء، لكنكم حضرتم الفعالية بصفتكم صحفيين وحسب". جذبت المسيرة أكثر من 200 ألف شخص يدعون إلى فرض ضوابط على حيازة الأسلحة، بعد ستة أسابيع من حادثة إطلاق النار في المدرسة. سألها براين "هل ترين الخط الفاصل بين الصحافة والنشاط السياسي فيما تفعلينه؟". 

شنيد التي ارتدت غلاف كتاب مكتوب عليه: "لقد طفح الكيل"، لم تتردد في الإجابة قائلة "أعتقد أنه بالنسبة لي، يكمن هدف الصحافة في أن تكون صوت من لا صوت لهم، ومن هذا المنطلق، أعتقد أن الصحافة شكل من أشكال النشاط السياسي". 

وبررت عبارتها قائلة "هناك فرق بينهما بالنسبة لي، بوصفي صحفية، وبوصفي شخصا يطالب بالتغيير، لكني أعتقد أن الشراكة بينهما هي الوسيلة الوحيدة لإحداث تغيير". 

ما إن نشرت "سي.أن.أن" تغريدة ذكرت فيها النصف الأول من عبارة شنيد، حتى هاج موقع تويتر، واتهمها تعليق تلو الآخر بأنها لا تفهم الفرق بين الصحافة والبروباغندا.

تعليقات كثيرة كانت تشير إلى أن الصحافة هي "تغطية الخبر وعرض الحقائق، ثم السماح لنا نحن القراء أو المشاهدين بتقرير آرائنا". وبينما جاءت بعض التعليقات أكثر حدّة، لامت تعليقات أخرى برايان ستلتر لعدم معارضته كلام ضيفته، واعتبرت موقفه دليلا على التحيزات الليبرالية إلى الشبكة.

وكما أشارت دانييل تشولاكيا التي تدرس الصحافة بجامعة "نيو سكول" في مقالها على موقع "لونغ ريدز" (Longreads)، كان من بين نقاد شنيد عدد من الصحفيين المحترفين، مثل جوش كراوشار من صحيفة "ناشيونال جورنال" (National Journal)، الذي ألقى باللوم على تعليم الصحافة لتقصيرها في غرس روح الحيادية والموضوعية في الجيل الجديد. كتب كراوشار قائلا "هذه العقلية هي التي تقتل الثقة في مهنتنا".

لكن مراسلين آخرين دافعوا عن شنيد، فقد كتب مات بيرس من صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" قائلا إن "اختيار ما تريد للناس أن يعرفوه هو نوع من النشاط، حتى لو لم يكن متعلقا بمظاهرة أو مسيرة". وقال مراسل صحيفة "واشنطن بوست" سويلي لوري "إن أي صحفي جيد هو ناشط لأجل الحقيقة ولصالح الشفافية والمساءلة".

ظلت الصحافة لمدة طويلة ملتزمة بالنقل المحايد للوقائع وبتسليط الضوء على المظالم في المجتمع. أصبح هذا التوتر بين المهمتين أوضح في لحظة الاستقطاب السياسي الراهنة التي تتحدى فيها حراكات مثل "حياة السود مهمة" (Black Lives Matter) و"طلاب بارك لاند" الوضع القائم. وقد جلبت حركة "مي تو" (MeToo) النشاط السياسي إلى غرفة الأخبار نفسها، مما دفع العديد من الصحفيين إلى التساؤل: أين تنتهي الصحافة ويبدأ النشاط السياسي؟ وأين يتقاطعان؟

تبرز هنا مشكلتان: الأولى هي الشعور السائد في كثير من غرف الأخبار بأن بعض القضايا لا تحتمل تعدد وجهات النظر، مثل حقوق الشواذ جنسيا أو أيدولوجيا تفوّق البيض. والثانية هي النقاش الدائر حول قدرة المراسلين على التعبير عن رؤاهم السياسية خارج غرفة الأخبار، على منصات التواصل الاجتماعي مثلا، أو المشاركة في المسيرات أو أي شكل آخر من أشكال الاحتجاج السياسي. 

حين يقول الرئيس إن هناك "أشخاصا جيدين جدا" في مظاهرة للقوميين المتطرفين البيض، هل يصبح وصف تصريحه بأنه "عنصري" وصفا محايدا، أم أنه يدخل في باب النشاط السياسي؟

حين تحتشد مئات الآلاف من النساء في مسيرة لدعم حقوق النساء وتمكينهن، هل يتجاوز الصحفي حدوده إن ناصرهن؟

حين تنتهك حقوق الأفراد المتحولين جنسيًّا، هل تعيب الصحفيَّ المتحول جنسيًّا مطالبتُه بالمساواة؟

يثار هذا الجدل في بعض الحالات على طول خط الاشتباك بين الأجيال، فترى الصحفيين الأكبر سنًّا يميلون -على الأرجح- إلى الفصل بين الأخبار والآراء، في حين يرى الصحفيون الأصغر فروقًا أقل حدة ووضوحًا بين صورهم الخاصة والعامة.  

يقول ألفريدو كارباخال رئيس الجمعية الأميركية لمحرري الأخبار ورئيس تحرير صحيفة "ألديا" (Al Día) في دالاس، إن كون المرء صحفيا يفرض عليه تضحيات معينة، "فنحن نتخلى عن صلاحيات يتمتع بها معظم المواطنين وهي التعبير عن آرائنا.. لا أستطيع الاحتفاظ بمصداقيتي إذا أعلنت الفرق بين ما أراه أنا كشخص وما أراه بوصفي صحفيا". 

أما بالنسبة لبعض الصحفيين الشباب، فإن هويتهم الشخصية تظهر بشكل أوضح في كتاباتهم. يقول الكاتب الشاب بيتر موسكوفيتز (29 عاما) الذي ينشر كتاباته على منصات مثل موقع "سبلينتر" وأوتلاين وفايس، "أعتقد أن هذا الانقسام الجيلي ولد بسبب تداعي صناعة الصحافة".

وغطى موسكوفيتز مؤتمر شارلوتسفيل للقوميين البيض لصالح "سبلينتر"، وكتب لموقع "أوتلاين" مقالا من منظوره الشخصي يروي وقائع المؤتمر بما فيها اصطدام سيارة بالجمهور ومقتل المتظاهرة هيثر هيار التي كانت تقف للتنديد بموقف المتطرفين البيض.

يقول "أعتبر الكتابة جزءًا من نشاطي.. لا توجد طريقة للفصل بين هذه الأشياء.. حتى لو كنت تكتب لوسائل الإعلام الرئيسية، فأنت تدعو إلى شيء ما، وإن كنت لا تصرح بذلك". 

أما وقد أصبحت غرف الأخبار أكثر تنوعاً، فقد برزت زاوية جديدة في النقاش. تقول مديرة قسم أخلاقيات الصحافة في معهد "بوينتر" إنديرا لاكشمنانان "لم يُعرف عن التقليد الكلاسيكي السائد في أي زمن من الأزمان أنه يمثل وجهة نظر الذكور البيض أصحاب الامتيازات". وتضيف أن مؤسسات النشر في سعيها لعكس اتجاه معاييرها الأخلاقية، تخلت عن فكرة الموضوعية لصالح كلمات أخرى مثل "التجرد" و"الدقة"، لتعكس بشكل أفضل الفكرة التي تقول إن الصحفيين دائما ما يرون القضايا من وجهة نظر نابعة من خلفياتهم وتجاربهم.

حتى منصات النشر التي تعنى بقضايا معينة، والتي تجمع تمويلها غالبا من التبرعات، تتوق للوصول إلى حالة من التوازن بين الموضوعية واتخاذ موقف إزاء قضية ما ومناصرتها.

المحرر السابق في صحيفة "نيويورك تايمز" بيل كيلر الذي يرأس الآن مؤسسة "مشروع مارشال" (Marshall Project) -وهي منظمة غير ربحية تحاول تسليط الضوء على مشاكل نظام العدالة الجنائية في الولايات المتحدة- يقول إنه يحافظ على نفس المعايير التي اتبعها أثناء عمله في الصحيفة بشأن تعبير الصحفي عن آرائه الشخصية، ويرى أن مهمة المؤسسة تتمثل في تقديم معلومات عن النظام ومكامن الخلل فيه، بدلا من الدعوة إلى طرق معينة لإصلاحه.

ويضيف "إننا نقدم معلومات موثوقة يستطيع أي أحد أن ينهل منها في مسعاه لتحقيق أهدافه، لكننا لا نقدم وصفات جاهزة ولا دعما لاتجاه معين.. نريد تقديم المعلومات للناس ليقرروا بأنفسهم". 

ومع تداخل الصحافة مع النشاط السياسي في بعض المناحي، نرى بعض النشطاء أيضا يلجون عالم الصحافة. وكما توضح مقالة نشرت مؤخرا في مجلة "كولومبيا جورناليزم ريفيو"، فإن دمقرطة شبكة الإنترنت دفعت منظمات النشطاء -ومن بينها اتحاد الحريات المدنية الأميركية وهيومن رايتس ووتش ومنظمة السلام الأخضر- إلى كتابة محتوى أصلي على موقعها يتجاوز مجرد السرد الصحفي. فمثلا، ينشر فريق المراسلين في اتحاد الحريات المدنية قرابة 20 مقالا صحفيا في الأسبوع على موقع المنظمة. 

تحدثت إحدى المقالات المنشورة مؤخرًا عن المخاوف المحيطة بشراكة "أمازون" مع الحكومة في تطوير برمجيات التعرف على الوجوه الخاص بها، واحتوت على تفاصيل وتقارير متعمقة من بينها طلبات السجلات العامة لكشف المزيد من التفاصيل عن القضية. وفي الوقت نفسه، كشفت عن المعلومات التي لديها بخصوص هذه القضية لصحيفة "نيويورك تايمز" ومنصات إعلامية أخرى نشرت مقالات متزامنة عن هذا الموضوع. 

 

لطالما كانت التفرقة بين الصحافة والنشاط السياسي مدفوعة بالخوف من الاتهام بالتحيز المسبق. والغائب في هذه المخاوف هو هوية من يوجه الاتهام بالتحيز. وفي العقود الثلاثة الماضية، اتهمت أصوات في اليمين وسائل الإعلام السائدة بأنها ذات تحيزات ليبرالية، واستخدمت هذه المزاعم للتشكيك في تقاريرها. 

في الحقيقة، يميل معظم الصحفيين فعلا إلى توجهات يسارية، وقد أظهر عدد كبير من الدراسات أن الصحفيين أميل إلى وصف أنفسهم بأنهم ليبراليون، وأميل إلى التبرع لمرشحين ديمقراطيين وينتمون إلى الحزب الديمقراطي بدلا من الجمهوري، رغم أن أكثر من نصف الصحفيين المشاركين في دراسة أجريت عام 2013 وصفوا أنفسهم بالمستقلين. فهل يعني هذا أنه ليس بإمكان هؤلاء أن يكونوا موضوعيين في تقاريرهم؟

ليس بالضرورة، بحسب تقرير نشره مركز "بيركمان كلاين" (Berkman Klein) للإنترنت والمجتمع في هارفارد الصيف الماضي. في الحقيقة، وجد التقرير أن ثقافة المساءلة أكثر شيوعا في اليسار والوسط، وثقافة التحيز الواضح تسود لدى أصحاب التوجهات اليمينية المتطرفة.

وقد وجد المركز في تحليله للمقالات الإخبارية التي يتم نشرها على منصات فيسبوك وتويتر خلال السنوات الثلاث الماضية، أن وسائل الإعلام تنقسم إلى منظومتين منفصلتين، إحداهما تقع في طيف يمثّل يمين الوسط إلى يسار الوسط تقريبًا. وتمت ملاحظة أن نفس المتابعين على منصات التواصل الاجتماعي أعجبوا وشاركوا تقارير من كل هذه المنصات، بل إن هذه المنصات نفسها كثيرًا ما نشرت روابط لبعضها البعض وعلقت على تقارير بعضها البعض.

يقول مدير المركز يوشاي بنكلر "المفاجئ هو مدى الارتباط الوثيق الذي يجمع كل هذه المنصات، ابتداء من وول ستريت جورنال، مرورًا بفوربس وذي هيل، وصولا إلى ديلي كوس وماذر جونز.. وكلها تعمل في منظومة إعلامية تراقب فيها وسائل الإعلام بعضها البعض وتكشف عن أخطاء بعضها البعض". ويسمي بنكلر هذه الظاهرة "بعلاقات التحقق من المصداقية".

أما المنظومة الأخرى فتمثل طيف اليمين المعتدل إلى اليمين المتطرف، ابتداء من شبكة فوكس الإخبارية، مرورا ببريت بارت (Breitbart)، وصولا إلى إنفو وورز (Infowars). ويقول بنكلر الذي شارك في تأليف كتاب "بروباغندا الشبكة.. التلاعب والتضليل والتطرف في السياسة الأميركية" الصادر عن مطبعة جامعة أكسفورد في سبتمبر/أيلول 2018، إن "هذه المنظومة أكثر انعزالا وأضيق أفقا عن بقية عالم الصحافة، وليس هناك رديف حقيقي لها في اليسار". 

وجد بنكلر هو وزملاؤه المؤلفون أن هذه المنظومة تعمل حرة من قيود بقية المشهد الإعلامي، "في دائرة مفرغة من المراجعة والتعليقات الدعائية". فما دام التقرير متوافقا مع الهوية الحزبية، تجري مشاركته ونشره، دون اعتبار لصدقه أو زيفه، على حد قول بنكلر. وتتولد عن هذه المنظومة معايير مزدوجة تتلاشى بسببها التقارير ذات التوجه اليساري عليها وتختفي، بينما تنشر التقارير اليمينية وتذاع باستمرار. 

وفقاً لهذا التحليل، يمكن اعتبار أن وسائل الإعلام اليمينية المتطرفة تقوم بنشاط سياسي، وذلك بترويجها وجهات نظرها بغض النظر عن الحقائق. أما وسائل الإعلام في الوسط واليسار فتنخرط في عقد مقارنات وثنائيات لا معنى لها، كطريقة لتفادي وصفها بأنها "ناشطة" من قبل اليمين. 

ينصح بنكلر هؤلاء الصحفيين بألا يشغلوا بالهم بمحاولة إرضاء اليمين عبر عرض وجهتيْ نظر في بعض القضايا التي يكون أحد طرفيها خاطئا خطأ بيِّنًا.. "يجب على الصحافة المهنية أن تغيّر من الطريقة التي تمارس بها الموضوعية.. يجب عليها أن تتحول عن الموضوعية بوصفها حيادا، إلى الموضوعية بوصفها سعيا إلى الحقيقة.. هكذا يصير بإمكانها تجنب الضياع في المقارنات الزائفة. ففي نظام تسود فيه البروباغندا، أن تكون حياديًّا يعني أن تكون ضالعاً في هذه البروباغندا". 

لعله لا توجد منصة إعلامية تمثل رفض سياسية عرض الناحيتين (من ناحية/ من الناحية الأخرى) أكثر من مجلة "تين فوغ" (Teen Vogue) التي تحولت خلال الثلاثين شهرا الماضية أكثر فأكثر إلى منصة للنشاط السياسي، وتبنّت الدفاع عن قضايا مهمّة، وكانت صوت السكان الأصليين في مظاهرات خط أنابيب داكوتا في محمية ستاندينغ روك، ووقفت مع حراك الحقوق المدنية للسود وحركة "مي تو"، واحتجاجات "مسيرة من أجل حياتنا" المطالبة بتشديد القوانين المتعلقة بحيازة السلاح. 

تقول رئيسة تحرير المجلة ساميتا موخوباداي "إننا نعرض وجهة نظرنا عبر اختياراتنا التحريرية، والمواضيع التي نغطيها.. ليست تين فوغ وحدها.. أعتقد أن هناك الكثير من المنصات التي تخدم الجمهور الشاب، ومعظمها تحول إلى خط أكثر تركيزا على قضايا العدالة الاجتماعية". 

شملت تغطية "تين فوغ" السياسية مؤخراً مواضيع عن المظاهرات التي انتشرت في عشرات المدن ضد سياسة ترامب في فصل أطفال المهاجرين عن أهاليهم عند الحدود. ومقالة أخرى عرضت قصة مراهقين في "فلينت متشيغان" نشؤوا في منازل ليس بها مياه نظيفة منذ الكشف عن أزمة تلوث المياه عام 2014. والقضية الأهم التي تغطيها المجلة هي النشطاء الشباب في قضية ضبط حيازة الأسلحة، وقد نشرت تقريرا عن المشاركين في الاعتصام عند مكاتب الكونغرس، وعرضت قصة مراهقة ترشحت لمجلس مدرستها المحلية بعد تهديدها بالفصل لمشاركتها في مظاهرات تدعو إلى تشديد القوانين المتعلقة بحيازة الأسلحة، وتغطية مستمرة لآخر جهود المراهقين النشطاء في "بارك لاند" المناهضين لحيازة السلاح.

تلاحظ موخوباداي تغيرا في الطريقة التي ينظر بها جيل الألفية والجيل الذي تلاه إلى دورهم في الصحافة، وتقول "حين بدأت العمل قبل عشر سنوات، لم أكن أحلم بالسماح لمراسل بالمشاركة في مظاهرة، لكن الأمر مختلف الآن.. أشعر أننا نواجه حراكا يشبه ما كان سائدًا في ستينيات القرن العشرين، حين طُلب من الصحفيين السود تغطية حركة الحقوق المدنية.. لديّ طاقم عمل شاب ومميز، وهذا ما يجعل عملنا مؤثرا جدا".

في تغطية الحراك الاجتماعي، تطلب موخوباداي من مراسليها الإعراض عن المشاركة في المظاهرات التي يغطونها، لكنها لا تفرض حكما قاطعا في الأمر. وتقول "أتوقع منهم أن يقدموا تقريرا، ومن الصعوبة البالغة تقديم تقرير أثناء المشاركة في المظاهرة.. إذا أرادوا التظاهر في أوقاتهم الخاصة فلن أقرر عنهم إن كان عليهم أن يفعلوا ذلك أم لا". 

وعلى خلاف ذلك، تؤكد إرشادات الإذاعة الوطنية العامة (أن.بي.آر) بخصوص المسيرات على "وجود قيمة صحفية حقيقية في كون المرء مراقبا للأحداث العامة مثل المسيرات والمؤتمرات، حتى لو لم يكن مكلفا بتغطيتها"، ولكنها تقول "إن التلويح بلافتة احتجاجية أو المشاركة في الهتاف ليست أفعالا لائقة للصحفي". 

ترى محررة قسم الصحة والسلامة في "تين فوغ" فيرا بابيسوفا التي ساعدت في تغطية مسيرة "من أجل حياتنا"، أن وظيفة المجلة في المقام الأول هي منح صوت للشباب الشغوف بالقضايا المجتمعية والحقوقية. وتقول إن "سرد قصة صحفية ما بمسؤولية يعني إجراء البحث والاستيثاق من المصادر وإتاحة الفرصة للأشخاص الذين أكتب عنهم ليتحدثوا عن أنفسهم، وفي الوقت نفسه أقدم سياقا جيدا وغنيا لنقل أصواتهم وتجاربهم". 

منذ عام، سلكت المجلة هذا المنحى خارج غرفة الأخبار أيضا، حيث ركزت فعالية عقدتها باسم "قمة تين فوغ" على السياسة والنشاط السياسي. وعقد مؤتمر في يونيو/حزيران بمدينة نيويورك وضم ناشطة "بارك لاند" إيما غونزالس ومراهقين آخرين يدعون إلى ضبط حيازة السلاح، وكذلك عضوة مجلس مندوبي ولاية فرجينيا دانيكا رويم المتحولة جنسيا، ومغني الراب كومن، والناشط البيئي آل غور نائب الرئيس الأسبق. ورغم لفيف المتحدثين التقدميين هذا، تصر موخوباداي على أن الهدف ليس الترويج لأي حزب أو وجهة نظر سياسية، بل حث المراهقين على الانخراط في النشاط السياسي. 

لكن حين تتخذ منصات النشر موقفا في قضايا معينة، يزداد الجدل في تحديد ما يفصل بين العمل المعتمد على المعلومات وبين المناصرة والنشاط السياسي.

في العام 2015، نشر موقع "باز فيد" (BuzzFeed) إرشادات أخلاقية جديدة ورد في نصها: "إننا نؤمن إيمانا راسخا بأن عددا من القضايا مثل الحقوق المدنية وحقوق النساء ومعاداة العنصرية وحقوق المثليين، لا تحتمل أكثر من وجه". بالنسبة لرئيس التحرير بن سميث، هذه ليست عبارة مثيرة للجدل "فمن الصعب أن تجد وكالة إعلامية تقول إن هناك وجهتي نظر فيما يخص التمييز العنصري، ولا أعتقد أن مسألة تمتع المواطنين المثليين بحقوق مساوية، نقطة خلافية". 

لكن بحسب سميث، هناك خط فاصل بين التعبير عن وجهة نظرك والدفاع عن مواقف حزبية. تفرض منصة النشر سياسة تحرم على أفراد طاقمها المشاركة في التجمعات السياسية أو نشر آراء سياسية حزبية على مواقع التواصل الاجتماعي. ويقول إن "هذا ليس علما دقيقا، لكن إن كانت تغريداتي ستصعب على زملائي تغطية شيء ما لأنه سيبدو حينها أنني أسخر منهم، فلا يجب عليّ فعل ذلك". هذا موقع تكتيكي أكثر منه أخلاقي بالنسبة لسميث الذي يقول "لا أعتقد أنه من غير الأخلاقي المشاركة في مسيرة.. أعتقد أنه قد يؤثر على طريقة عملك". هذا حبل رفيع فعلا قد يصعب إدراكه والسير عليه دوما.

في العام 2016، أثار موقع "باز فيد" جدلا بمهاجمته مضيفيْ برنامج "فيكسر يوبر" (Fixer Upper) التلفزيوني على قناة "إتش.جي.تي.في" (HGTV)، وذلك لعضويتهما في كنيسة معادية للشواذ جنسيا. وشعر كثير من المحافظين بأن الموقع تجاوز خطا أحمر، إذ يرى المسيحيون أن الأشخاص الذين يعارضون زواج الشواذ أو حقوق مجتمع "أل.جي.تي.بي" (LGTB) يتعرضون للاضطهاد من قبل وسائل الإعلام. وسرعان ما نشر قس لوثري مقالة في موقع "الفدرالي" (The Federalist) بعنوان "بازفيد يريد تدمير سمعة تشيب وجوانا جينس (مقدميْ البرنامج) لأنهما مسيحيان ومحبوبان".

منع الصحفيين من التعبير عن آرائهم السياسية لا يلقى قبولا لدى الصحفيين الذين يشعرون بأن حقوقهم وهويتهم مهددة. في أعقاب تنصيب ترامب رئيسا للولايات المتحدة، كتب مراسل "ماركت بلاس" (Marketplace) لويس والس على مدونته الشخصية مقالا بعنوان "ماتت الموضوعية، ولا مشكلة لديّ في ذلك"، قال فيه "تناولت وسائل الإعلام أخيرًا قصص المتحولين جنسيا، لكن النقاش يدور حول السماح لهم بالعيش والمشاركة في المجتمع واستخدام المنشآت العامة وعدم التعرض للتحرش والطرد وحتى القتل، من عدمه. من الواضح أنني لا أستطيع أن أكون محايدا أو وسطيا في نقاش حول إنسانيتي نفسها". 

ردًّا على ذلك، أقدمت شركة "أميركان بابليك ميديا" -الشركة الأم "لماركت بلاس"- على طرد والاس، قائلة إن منشوره يتعارض مع سياستها التي تطلب من المراسلين "عدم الإفصاح عن قناعاتهم السياسية" لتجنب "خلق تصور بالانحياز السياسي". وحينها قالت ديبورا كلارك نائبة رئيس "ماركت بلاس" ومديرتها العامة في تصريح "حين أتحدث عن عدم المشاركة في رؤية أي طرف، لا يعني هذا أننا نقدم صحافة متحيزة أو مناصرة لطرف ما.. إننا نقدم تقارير مستقلة وموضوعية تطرح وجهات نظر متوازنة عن الأخبار التي نغطيها". 

يقول والاس إن مشرفيه في شركة "أميركان بابليك ميديا" هم من شجعوه في الحقيقة على أن يكون أكثر تعبيرًا عن شخصيته، وعدم التردد في الحديث عن قناعاته في منشوراته على مواقع التواصل الاجتماعي. وأشار آخرون إلى أن الشركة لم تجد مشكلة -على ما يبدو- في التغريدات التي نشرها الإعلامي كاي ريسدال والتي انتقد فيها صراحة الرئيس ترامب على صفحته الشخصية على تويتر. قال والاس الذي يعمل اليوم محررا للأخبار في مجلة "سكالاواغ" (Scalawag) "أحببت عملي.. أعتقد أن ماركت بلاس فوتت الفرصة لتكون رائدة في هذا النقاش.. دائما أمرّ بمواقف لا يعتبرني الناس فيها محايدًا، بنفس الطريقة التي يمكن لصحفي ذي بشرة ملونة أن يكون محايدًا في تغطيته لمؤتمر للمتطرفين البيض".

يقول والاس إن "سكالاواغ" لا تمنع الصحفيين من التعبير عن رؤاهم الشخصية في القضايا أو تغطية القضايا التي تؤثر فيهم شخصيا. في كل الأحوال، هو لا يرى في ذلك نشاطا سياسيا بنفس طريقة المجموعات التي تنتظم حول قضية ما. "هناك ما يسمى تعارض المصالح، وأنا واع لهذا الأمر.. نحن نفحص الحقائق ونحرص على أن تضم المقالة أكبر عدد ممكن من وجهات النظر، لكننا لا نقول للصحفي: لديك رأي واضح حيال هذه القضية، لذا لا تقم بتغطيتها". 

في مقالة تتحدث عن متحولين جنسيا يساعدون بعضهم البعض للحصول على الرعاية الصحية، يروي والاس قصة نشطاء في ولايتي تينيسي وكنتاكي يقدمون خدمة مجانية لتوجيه المتحولين جنسيا إلى أطباء وعيادات صحية تراعي وضعهم وظروفهم.

تقدم المقالة وجهة نظر إيجابية عن النشطاء، وتعرض نقدا لاذعا "للبيئة الثقافية والتشريعية العدائية" التي خلقت حالة من الإقصاء والتمييز ضد المتحولين جنسيا الذين يسعون للحصول على رعاية صحية. لكنها لا تعرض وجهة نظر طبيب قد يمتنع عن تقديم الخدمة الصحية لهذا المتحول لأسباب دينية. 

أما بالنسبة للمشاركة في مظاهرات ضد "قوانين الحمامات" المعادية للمتحولين، يقول والاس "لا أقول إني بوصفي صحفيا ليس بوسعي تغطية قوانين الحمامات العامة المعادية للمتحولين والتظاهر ضدها، لكني أريد التركيز على عرض القصة بشكل صحيح، ومحاولةُ المشاركة في الوقت نفسه قد تكون مشتِّتة للذهن". 

يكتب والاس حاليا كتابا عن تاريخ الموضوعية في الصحافة، يتقصى فيه بداية ظهور المصطلح أوائل القرن العشرين مع ظهور المدارس الصحفية وأدلة السلوك المهني والأخلاقي. في ذلك الوقت، كان بعض الأميركيين يعانون من القلق بشأن تدفق المهاجرين إلى المدن، وحق النساء في التصويت. يقول "كان كثير من المجموعات السكانية المتنوعة أكثر بروزًا في المجتمع".

يرى والاس أن الرابط بين هاتين الظاهرتين لم يؤطر فقط معنى الموضوعية، بل أيضا هوية الشخص الذي بإمكانه أن يكون موضوعيًّا، أي الشخص الذي بإمكانه نقل الرؤية الذكورية البيضاء عن العالم. "لكن ما إن تحولت الموضوعية إلى إطار عمل، حتى أصبحت كذلك وسيلة لإبعاد الصحفيين الذين تتعارض مصالحهم مع مُلاك الصحف". 

لم يكن طرد والاس حادثة معزولة، ففي مارس/آذار 2018 طردت جامعة تينيسي في "تشاتانوغا" مراسلة متحولة جنسيا في إذاعة "WUTC" المملوكة للجامعة والتابعة للإذاعة الوطنية العامة. كانت المراسلة تغطي قضية قانون الحمامات المعادي للمتحولين جنسيا في ولاية تينيسي، وطُردت بعد تهديد مسؤولين بوقف التمويل عن المحطة، قائلين إنها لم تعرّف بنفسها كمراسلة. دافعت الشركة المالكة للإذاعة عن المراسلة التي كانت ترتدي شارة الصحافة وتحمل أجهزة تسجيل واضحة للعيان، واتهمت الجامعة بالخضوع للضغوط السياسية. ووافقت الجامعة على دفع تعويض للمراسلة بمبلغ 50 ألف دولار لتسوية دعوى قضائية رفعتها ضد الجامعة بسبب طردها. 

وفي ربيع العام 2018 كذلك، ترك ديسموند كول -الكاتب الذي تناول قضايا تحرش الشرطة بالأميركيين من أصول أفريقية- صحيفة "تورونتو ستار"، بعد توبيخه بسبب التعبير عن سخطه بوضوح في جلسة استماع بمجلس الشرطة.

لسنوات طويلة، عارض كول أسلوب "التمشيط" (Carding) حيث يوقف رجال الشرطة السود عشوائيا في الشارع ويطالبونهم بأوراق الهوية ويستجوبونهم دون سبب وجيه. في العام 2015، كتب كول مقالة في "تورونتو لايف" يدعي فيها أنه تعرض للتمشيط أكثر من 50 مرة في شوارع المدينة. لم تكن صحيفة "تورونتو ستار" التي وظفت كول بسبب آرائه في قضايا العنصرية، مرتاحة دائما لنشاطه الصحفي والقضايا التي يتناولها. وبحسبه، فقد اقترح عليه ناشر الصحيفة جون هوندريش تقليل انشغاله بالقضايا العنصرية وتنويع مواضيعه، لكن هوندريش ينكر ذلك ويقول إنه اقترح على كول فقط عدم الكتابة كثيرا عن التمشيط. 

في أبريل/نيسان 2017، رفع كول يده في اجتماع لمجلس الشرطة بتحية "القوة السوداء"، ورفض مغادرة المنصة حتى توافق الشرطة على حذف المعلومات التي جمعتها عبر التمشيط. وردا على ذلك، عاتبته الصحيفة سرًّا وقالت له إنه ليس بوسعه أن يكون ناشطا وكاتبا صحفيا في الوقت ذاته. 

شرحت المحررة العامة في الصحيفة كاثي إنغلش هذا الأمر في مقالة قالت فيها إنه ليس لدى الصحيفة أدنى مشكلة في اتخاذ كاتب الرأي مواقف عامة في القضايا العامة. "لكن حين أصبح كول نفسه خبرًا صحفيا، وحين نقل نشاطه إلى مستوى أعلى (يتجاوز المتوقع) أصبح الأمر مثيراً للقلق". وقالت إن الصحيفة قضت سنوات في نقل أخبار التمشيط، وأنفقت الكثير على طلبات السجلات العامة التي تظهر أن السود يتعرضون للإيقاف من قبل شرطة تورونتو أكثر من البيض بثلاث مرات، لكن مظاهرة كول في جلسة استماع المجلس ألقت بظلال من الشك على قدرة الصحيفة على تغطية القضية باتزان. 

كول الذي رفض طلبين لإجراء مقابلة معه من أجل هذه المقالة، قرر ترك الصحيفة على أن يتم تقييد نشاطه، وكتب في مدونته الشخصية "إذا كان عليّ الاختيار بين عمود صحفي والأفعال التي يتوجب عليّ القيام بها لتحرير نفسي ومجتمعي، سأختار أن أنخرط في خدمة قضية تحرير السود".

صعّد كول من حربه ضد التمشيط على المستوى الوطني بحملات ضد توقيف السكان الأصليين في ألبرتا، واستمرّ في الترويج لمواقفه في البرنامج الإذاعي الذي يستضيفه، وتراوده فكرة الترشح لمنصب عمدة تورونتو.

أثارت الحادثة نقاشا محتدمًا بين مجتمع الصحفيين في تورونتو، فقد أيد بعضهم قرار الصحيفة بينما وصفها آخرون بازدواجية المعايير، خصوصا أنها استمرت في النشر لنشطاء مشاهير مثل المناضلة لأجل حقوق النساء ميشيل لاندسبيرغ، والناشطة المناهضة للعولمة نعومي كلاين. 

لاندسبيرغ نفسها انتقدت الصحيفة في تعاملها مع القضية، وقالت إنها دعمت نشاطها في قضايا النسوية والفقر لمدة 25 عاما عبر منحها الفرصة لتكون كاتبة رأي فيها، ونشر عريضة تطالب بمنع إغلاق مركز لرعاية الأطفال، وتصوير إعلان يصورها وهي تقدم العريضة لرئيس الوزراء الكندي. وكتبت في مجلة "ناو" الأسبوعية تقول "هل العرق أقل أهمية من الفقر أو التمييز الجنسي؟ لن يتجاهل القراء السود حقيقة طرد واحد منهم بسبب نشاطه دفاعا عنهم". 

مشكلة الخط الفاصل بين الصحافة والنشاط السياسي لا تخص اليسار وحده، فقبل عدة أشهر قررت صحيفة "ساراسوتا هيرالد تريبيون" (Sarasota Herald-Tribune) تعيين لي وليامز محررًا بعد أن كان كاتب رأي فيها، وتتعلق مسؤوليته الجديدة بتحديد مواضيع الأخبار العاجلة وتحرير مقالات الرأي. وبالإضافة إلى دوره ككاتب رأي في الصحيفة، يدافع لي عن حقوق حمل السلاح، ويدير مدونة للصحيفة تسمى "ذي غون رايتر" (The Gun writer) ومدونة صوتية تسمى "فكّر، سدّد، أطلق". في مدونته يغطي متعاطفًا تجمعات المطالبين بترسيخ الحق في حمل السلاح، وينتقد شركات مثل "ديكس سبورتينغ غوودز" التي أوقفت بيع الأسلحة الهجومية، ورفعت سن مشتري الأسلحة بعد عملية إطلاق النار في مدرسة "بارك لاند". في إحدى حلقات مدونته الصوتية بعد هذه الحادثة بأسبوعين، سخر وليامز وضيفه من إجراءات ضبط حيازة الأسلحة، ودعوَا إلى تسليح الأساتذة لجعل المدارس أكثر أمنا. 

تباينت ردود الأفعال داخل غرفة الأخبار في صحيفة "ساراسوتا" على قرار تعيين وليامز، فاستقال أحد كتاب الرأي سريعا بعد هذا القرار، لكن رئيس التحرير ماثيو ساور دافع عن هذا التعيين في صحيفة "بوينتر" وكتب عن وليامز في أبريل/نيسان قائلاً "نشجع الناس على أن يكونوا شغوفين تجاه مواضيع معينة ويهتموا بها، لكني لست قلقا من تأثير ذلك على رأيه بخصوص قضايا معينة، لأنه مهني محترف".

وبالفعل، لم تُظهر تغطية الصحيفة لقضية الأسلحة أي تحيز واضح. وشملت الأخبار العاجلة التي عرضتها مؤخرا، مقالات تغطي حادثة إطلاق النار بمدرسة في سانتافي بولاية تكساس، واستمرار دعوات طلاب "بارك لاند" إلى مزيد من قوانين ضبط حيازة الأسلحة، وجهود نواب ديمقراطيين وجمهوريين في المجلس التشريعي بفلوريدا لتمرير قانون جديد لأمن وسلامة المدارس. 

وفي العام 1989، تعرضت مراسلة صحيفة "نيويورك تايمز" ليندا غرينهاوس لنقد لاذع بسبب مشاركتها في مسيرة داعية إلى حقوق الإجهاض، بينما كانت تغطي أخبار المحكمة العليا للصحيفة.

في كتابها الصادر عام 2017 بعنوان "مجرد صحفي.. عن الصحافة والحياة وما بينهما"، تصف غرينهاوس نفسها بأنها "ناشطة بالصدفة"، وتفرق بين حضور فعالية باعتبارها ناشطة أو مواطنة متفاعلة. وتقول إن "مسيرة الإجهاض كانت حدثا شارك فيه نصف مليون شخص.. هل كنت لأسير تحت لافتة تقول: مراسلو نيويورك تايمز يدعمون الحق بالإجهاض؟ لا، لم أكن لأفعل ذلك، فقد ذهبت هناك بصفة شخصية". 

وبينما تحولت هذه الحالة إلى دراسة كلاسيكية في تعارض المصالح، تقول غرينهاوس إن زملاءها كانوا على علم بذهابها في ذلك الوقت. وتحولت مشاركتها سريعا إلى مشكلة، ونشرت "نيويورك تايمز" حينها مقالا تقول فيه إن غرينهاوس خرقت سياستها بشأن تعارض المصالح. واحتدم الجدل بشأنها مجددا عام 2006 بعد إلقاء غرينهاوس كلمة في معهد "رادكليف" تنتقد فيه سياسات الرئيس جورج بوش الابن بشأن حقوق الإنجاب.

في تلك المناسبة، طرح النقاد مجددا مشاركتها في المسيرة، والآن بعد 25 عاما؟؟؟، باعتبارها شيئا يمنعها من أن تكون موضوعية. تقول غرينهاوس "حلت بالصحافة السائدة حالة من الطهرانية بأثر رجعي، وهو ما أدهشني كثيراً"، وأضافت أن المفارقة تكمن في أنه حتى ذلك الوقت لم يشكك أحد في جودة عملها. "ما الذي حدث لمحاسبة الصحفيين بناء على جودة ونزاهة عملهم، بدلا من محاكمة ما في قلوبهم وعقولهم؟ إذا لم نكن مهنيين بما يكفي لنفصل آراءنا الشخصية عن منتجنا الإخباري، فربما لا نصلح لإعداد المواد الإخبارية في المقام الأول". 

مؤخرًا، أبدت صحفيات انزعاجهن من تعليمات غرف الأخبار التي منعتهن من المشاركة في مسيرة النساء بواشنطن المقامة في اليوم التالي لتولي ترامب رئاسة البلاد في يناير/كانون الثاني 2017. لم تلق هذه القيود صدى حسنا لدى الصحفيات اللواتي ناقشن رغبتهن في حضور الفعالية في مجموعات خاصة على فيسبوك، بحسب المراسلة السابقة لدى "أسوشيتد برس" شايا طايف مهاجر التي تدرس الصحافة حاليا في جامعة جنوب كاليفورنيا.

تقول شايا "علينا أن نقر أن النساء لم يتمتعن بالمساواة الكاملة في أميركا ولا في أي مجتمع آخر"، وكتبت مقالا لصحيفة كولومبيا جورناليزم ريفيو بعنوان "لماذا يجب أن يسمح للصحفيين بالمشاركة في مسيرة النساء". تقول إن طريقة تسيير الأمور في عالم الصحافة ذكورية للغاية وبيضاء وتحد من أفاق الناس الذين ربما لم يضطروا يوماً للتظاهر من أجل حقوقهم. 

اتبعت شايا التعليمات بعدم المشاركة أثناء عملها في أسوشيتد برس، لكنها أشارت في مقالتها في مجلة "كولومبيا جورناليزم ريفيو" إلى التناقضات التي ورثتها الصحفيات وكذا الصحفيون من ذوي البشرة الملونة في هذه المهنة، وكتبت تقول "لقد قيل لنا أن نقول الحقيقة للسلطة، وأن نكشف عن أوجه اللامساواة والظلم، ونرفع أصوات المهمشين والفقراء. لكن طُلب منهم أيضا أن يظلوا صامتين حين يشعرون بأن حقوقهم وحقوق المهمشين الآخرين معرضة للانتهاك". 

وأكّدت أن هذا الإسكات ربما يكون السبب في عدم تمتع الصحافة بمزيد من التنوع رغم الجهود التي استمرت عقودا. "هناك حواجز تعيق دخول عالم الصحافة، خصوصا للأجيال الجديدة الرافضة لإخفاء هويتها كما يُطلب منها.. ليس من الأمانة أن نتظاهر بأننا لسنا ما نحن عليه". 

شاركت شايا في المسيرة النسائية حاملة لافتة تحث النساء حول العالم على الوحدة. وبوصفها إيرانية أميركية، شاركت أيضا في مظاهرات بمطار لوس أنجلوس الدولي احتجاجا على فرض إدارة ترامب حظرا على سفر مواطني الدول الإسلامية. تقول "لا أتحدث إلى الإعلام حين أذهب.. لا أحمل لافتات سياسية أو لافتات لمجموعات معينة، لكني لا أرى سببا للتوقف عن الدعوة إلى المساواة". 

ولا يعني انتماء صحفي ما إلى مجموعة مهمشة، أنه منجذب بالضرورة إلى المشاركة في الاحتجاجات المطالبة بحقوقها. فقد بدأت الصحفية الحرة جيني مونيه التي تنتمي إلى قبيلة "لاغونا بويبلو" من السكان الأصليين، تغطية الاحتجاجات ضد خط أنابيب داكوتا في ستاندينغ روك في الوقت الذي جذب فيه هذا الخط تغطية إعلامية واسعة.. فصلت نفسها عن النشطاء المقيمين في المعسكر، وقضت لياليها في النزل أو في سيارتها. 

في مقال مونيه الأول لمجلة "يس!" (Yes!)، أجرت مقابلات مع سكان بيض ومحافظين في داكوتا الشمالية عن عدم ارتياحهم للغرباء الذين يأتون إلى البلدة ليثيروا الاضطراب. واستقصت كيفية تغيير مسار خط الأنابيب من مساره الأصلي قرب بسمارك إلى محمية "ستاندينغ روك سيكس ترايب"، ومنشورات مفصلة متعصبة لمسؤولين محليين على فيسبوك. تقول مونيه "إذا كنت سأستخدم كلمة عنصرية، عليّ أن أكون مستعدة عند كل منعطف لشرح سبب كونها عنصرية. وبوصفي كاتبة ملونة البشرة من المهمشين، لا يسعني أن أكون ناشطة". 

وتضيف أن على الكتاب المنتمين إلى مجموعات مهمشة السير على حبل رفيع، بسبب رغبة وسائل الإعلام نفسها في نشر قصص مثيرة عن الصراع والظلم، بدلا من موضوعات دقيقة ومفصلة عن محمية السكان الأصليين. فوسائل الإعلام السائدة تحب العناوين النارية التي تجذب القراء عبر تصدير المظالم "حتى يصبح الكتاب المنتمون إلى السكان الأصليين مجبرين على السير داخل هذه الحدود"، وهو ما يضعهم في أحيان كثيرة في صورة الصحفي المناصر. لم تجد مونيه اهتماما كبيرا في الإعلام بشأن القصص الأكثر تعقيدا عن السياسة داخل القبيلة وخارجها، وكتبت في مقالات نشرتها في قسم "ريفيل" (Reveal) بمركز الصحافة الاستقصائية وفي مجلة "يس!"، عن الكيفية التي علقت بها القبائل في حرب بين الولاية والسلطات الفدرالية حول السيطرة على المحمية، وأوردت الخلافات بين قادة السكان الأصليين حول استمرار المظاهرات ضد خط الأنابيب، وإن كان ذلك هو الحل الأفضل للمحمية. 

تقول مونيه إن كونها كاتبة من السكان الأصليين يمنحها فرصة للاطلاع على نقاشات داخل مجتمع السكان الأصليين قد لا تتاح للكتاب من خارج هذا المجتمع، مما يسمح لها بفهم الفروق في المجتمع بدلا من النظر إليه نظرة أحادية. وتضيف "مع ذلك، يسود افتراض بأن المقالات التي ينشرها كتاب من السكان الأصليين لا يمكنها أن تكون موضوعية". 

حين حدثت حملة اعتقالات عشوائية استهدفت النشطاء في "ستاندينغ روك"، اعتقلت مونيه معهم. وبوصفها صحفية غطت المؤتمرات الصحفية بانتظام، توقعت أن يفرج عنها فور وصولها إلى الحجز، لكنها احتجزت مدة 30 ساعة وتعرضت للتفتيش وحرمت من حقها في إجراء مكالمة هاتفية. ورغم أنها أخبرت مسؤولي السجن مرارا وتكرارا بأنها صحفية، فإنها تعرضت لإهانات عنصرية من قبل مأمور السجن الذي نعت النساء "بالمتوحشات". كتبت عن هذه التجربة أيضا، مقدمة دليلا حيًّا على نوع المعاملة العنصرية التي يلقاها المتظاهرون من السكان الأصليين. 

تجربة ما يمر به النشطاء عن قرب، قد تؤدي إلى تغطية أعمق وأكثر تعاطفًا، حتى بالنسبة لصحفيين ليسوا من المجموعات المهمشة. لكنها تثير أيضا أسئلة حول الحفاظ على مسافة مناسبة من الأحداث لتغطيتها بشكل موضوعي. 

هذا ما حدث في مظاهرات "حياة السود مهمة" في فيرغسون عام 2014، وفقا لأستاذ علم الاجتماع بجامعة "سانت لورانس" ستيفن برنارد الذي حلل استخدام تويتر من قبل النشطاء والصحفيين خلال الأحداث. يقول برنارد إنه في خضم الفوضى التي تسود المظاهرات التي جنحت إلى العنف أحيانًا، يختفي الخط الفاصل بين الصحفيين والنشطاء، فيكون المواطنون الصحفيون -أو الصحفيون النشطاء كما يسميهم- أول من ينشر الأخبار العاجلة على وسائل التواصل الاجتماعي ويلحقهم الصحفيون المحترفون. 

الأمر الأكثر إثارة هو الكيفية التي اختلفت بها تغطية الصحفيين الموجودين في المظاهرات من داخلها، مثل ويزلي لوري من "واشنطن بوست"، أو مات بيرس من "لوس أنجلوس تايمز"، أو راين رايلي من "هافنغتون بوست"، عن تغطية الصحفيين الأبعد عن المظاهرات. وما إن حاولت الشرطة السيطرة على الحشد بالقنابل المدمعة والرصاص المطاطي، حتى جاءت تغريدات الصحفيين المندمجين في الحشد أكثر عاطفية وتعاطفا في نبرتها. 

يقول برنارد إن "هؤلاء الصحفيين الذين بدؤوا العمل في الميدان مع النشطاء ومشاركتهم هذه التجارب المشحونة بالمشاعر، أصبحت تغريداتهم من نواح عديدة متماهية مع تغريدات النشطاء". في فورة المظاهرات، كتب صحفي قائلا إن "الشرطة تطلق الغاز المدمع باتجاه الصحفيين الآن، وتسلط إنارة الكشافات عليهم حتى لا تستطيع كاميراتهم تسجيل ما يحدث". في اليوم التالي، نشر صحفي تصريحا بالتعاطف مع النشطاء ونقدا مبطنا للشرطة، قال فيه "لم يكن الأمر كله سيئا الليلة.. عقدت صداقة مع مجموعة من الأشخاص الذين لم يهددوني بالهراوات والغاز المدمع". 

لا يعني هذا أن هؤلاء الصحفيين لم ينقلوا الحقيقة، لكنهم كانوا أقرب إلى حقائق مختلفة عن الصحفيين في الجانب الآخر من خط الشرطة الذين استقوا الأخبار من المسؤولين في المؤتمرات الصحفية. يقول برنارد "كان بإمكانهم رؤية تجييش قوات الشرطة والطريقة التي انتشرت بها هذه القوات ضد مظاهرات سلمية.. حقيقة استهداف الصحفيين بالغاز المدمع واحتجازهم وتقييدهم عن أداء واجبهم، كانت مستفزة بالنسبة لهم.. هذا تجاوز للحد ولن ندافع عنه".

يوسع برنارد تحليله هذا في كتابه "مواطنون عند البوابات.. تويتر والجمهور الشبكي وتحولات الصحافة الأميركية"، ويتناول تغطية الصحفيين لدونالد ترامب بعد فوزه في الانتخابات.

إجمالا، وجد برنارد أن استجابة الصحفيين كانت أكثر تحفظا من الجمهور العام، فالصحفيون لم يكونوا ينقلون تصريحات ترامب المجردة، بل أضافوا إليها تعليقات وسياقات وفحصوا الحقائق الواردة فيها، وفي بعض الأحيان فعلوا ذلك بشيء من الحدة، كأن يقولوا مثلا "هذا الأمر خارج عن السياق بطريقة سخيفة"، أو "يظهر هذا ببساطة أن ترامب لا يفهم الحكم". يقول برنارد "لقد استخدموا تويتر لتصحيح المعلومات" ولو بطريقة مسلية ومتفاعلة. 

أما من يقفون على الجانب الآخر من خط الانقسام السياسي، فإن هذه التغريدات قد تمثل موقفًا سياسيا حزبيا، وهي -كما يقول برنارد- "تخفي الخط الفاصل بين النشاط السياسي وصحافة الخصومة التقليدية". 

الخطوط الفاصلة بين الدقة الصحفية والنشاط السياسي وبين مناصرة القضايا والخصومة، تتغير بناء على مكانك من خط الانقسامات السياسية، أو موقعك من صف رجال الشرطة. لكن الصحافة تتطلب "مجموعة من المهارات التي تمكن الصحفي من التعرف على وجهات نظر الآخرين وتمنحه القدرة على سماع قصصهم"، على حد قول موخوباداي من "تين فوغ". ويتضمن هذا الانفتاح ضرورة سماع رواية أفراد الشرطة عند الكتابة عن المظاهرات، أو سماع قصة المتهم بالاغتصاب عند الكتابة عن واقعة اعتداء جنسي، وهذا أمر لن يكترث بالقيام به معظم الناشطين. 

تقول موخوباداي "ما أريد معرفته أكثر من أي شيء آخر، هو مدى فضولك.. نعرف جميعا أنه ليس ثمة قصة صحفية لا تحتمل الجدل بشأنها، ولو تركت موقفك يتحكّم في عملك، أيًّا كان موقفك، فعليك أن تدرك أنك لا تقدم صحافة حقيقية".