التحرش في غرف التحرير.. الجريمة التي لا تتقادم.... "التطبيع مع التحرش مقابل البقاء في العمل؟!"

2021-11-11 08:36

التقارير

التحرش في غرف التحرير.. الجريمة التي لا تتقادم

منى سعيد-معهد الجزيرة للإعلام

كان مساء صيفيا شحّت فيه الأخبار، فتسرب الملل إليّ وزميلي في العمل وأغرقنا في كلام بعيدا عن الصحافة وضغطها، وأخذتنا تفرعاته إلى حديث عن العطلة وعن برامجها حتّى بلغنا منعرج الحديث عن السهرات الليلية وعن جدلية الحرّية والتحرّر.

من الحريّة إلى التحرر، قادتنا الكلمات إلى العلاقات بين الرجل والمرأة، ولم أكن أعلم حينها أن حديثي العفوي عن الحب سيثير رغبة كامنة لدى زميلي في العمل؛ فالأمر بالنسبة لي لا يعدو أن يكون تعبيرا عن وجهة نظري، ولكن بالنسبة له إشارة ليقترب منّي أكثر فأكثر.

فيما أنا أواصل الحديث عن الحب وعن حقّ المرأة في اختيار شريكها وعن سلطان العشق على العقول، وجدته يغادر مقعده وينحني قبالتي حيث أجلس على مقعدي، ويضع يديه على كتفي ويحاول تقبيلي، سرى الخدر في كامل جسدي من وقع الصدمة ولكنني دفعته إلى الأمام صارخة: "ماذا تفعل؟"

وكم كان جوابه حينها مستفزّا: "أريد أن أقبّلك"، وبكل برود بثّ أنفاسه من جديد في وجهي حتّى كاد يلتصق بي فدفعته من جديد. حينها فقط صار بيّنا أنّني لا أريد قبلته التي صورتها تأويلاته الخاطئة لكلماتي، واكتفى باعتذار بارد كأنفاسه، مرجعا تصرّفه الأرعن لطريقة حديثي، جواب يمكن أن يدفعك لارتكاب جريمة قتل دون أن تحس.

ولم يكتف بذلك، بل ارتدى ثوب الناصح لينبهني ألا أتكلّم بتلك التلقائية عن الحب وعن العلاقة بين المرأة والرجل حتّى لا أكون في مرمى سهام المتحرشين، والحقيقة، أنه منذ ذلك الوقت، صرتُ أنتقي العبارات وأنا أحادث الزملاء عن مواضيع خاصة بعيدا عن روتين الأخبار، وكلّما غلبتني عفويّتي استجرت بفعلة زميلي منها.

ورغم مرور سنوات على هذه الواقعة، ما زالت تتجسّد أمامي بكل تفاصيلها حينما تسرد زميلات حوادث تحرّش تعرّضن لها في غرف التحرير. قصص موجعة تزعزع نفسية المرأة الصحافية التي تجد نفسها في منزلة لا تحسد عليها، فإما أن تغادر عملها أو تطبّع مع التحرش.

الوقع النفسي الذي يتركه التحرش لا يتلاشى بالتقادم. يبقى محفورا في نفوس صحافيات جهرت بعضهن بما تعرّضن له وخسرن عملهن، فيما انسحبت أخريات في صمت، ورضخت أخريات للأمر الواقع في مؤسسات إعلامية تغضّ البصر عن التحرّش في عقر مقراتها.

والتحرش الجنسي من بين التابوهات الاجتماعية المسكوت عنها، تحوّل "الضحيّة" إلى "متهمة" حينما تشهّر بمُمارِسة هذا الفعل حتى وإن كانت صحافية وكان فضاء التحرّش مقر عملها، الأمر الذي قاست إحدى الصحافيات ويلاته الاجتماعية والاقتصادية والنفسية.

سنوات طويلة مرّت على حادثة التحرّش التي تعرّضت لها حينما طالبت بتسوية وضعيتها المهنية، ولم تكن تتوقع يوما أن تمكينها من حقّها المهني سيكون مقابل تلبية نزوات أحد رؤساء التحرير المباشرين لها في الجريدة الورقية حيث تعمل.

وهي تستعيد تفاصيل الحادثة، تحاول في كل مرة، عبثا، تهذيب الكلمات وترتيبها، وهي التي تحمل إلى اليوم وجع مغادرتها لعملها بعد أن تمادى رئيس التحرير في مضايقتها، والضغط عليها لتنفيذ رغبته مقابل تزكيتها لترسيمها بالمؤسسة.

"رافقيني إلى منزلي وسيكون كل شيء على ما يرام"، كان يوميا يعيد الجملة نفسها على مسمعها، وكانت في كل مرّة تبتكر أسلوبا جديدا للتهرب من نظراته وكلماته، حتّى صار يرفض المواضيع التي تقترحها في اجتماعات التحرير، الأمر الذي بات يهدد وجودها في المؤسسة.

وأمام إمعان المتحرّش في مضايقتها وتجميدها بطريقة مقنّعة عن العمل، تخلّت عن أسلوب الهرب منه ومن مضايقاته وقررت مواجهته، وانتهى الأمر إلى شجار بلغ مداه كل العاملين بالمؤسسة، لتجد نفسها بلا حقوق مهنية بعد عملها في المكان ذاته تسع سنوات.

كانت نهاية رفضها لمقايضة حقها المهني بالتحرش الجنسي بقاءها بلا عمل ومعاناتها من اضطرابات نفسية، خاصة حينما صدتها الجهات التي قصدتها لمساندتها في معركتها ضد المتحرّش، حتّى إن بعضا ممن ولّت وجهها شطرهم طلبوا منها السكوت عن الأمر حتّى لا تشوّه سمعتها.

ورغم أنها خاضت المعركة لوحدها دون سند في الوسط المهني، باستثناء تعاطف زميلاتها، لم تستسلم، وشهّرت بالمتحرّش وسط دعم معنوي من زوجها الذي روت له كل تفاصيل الحادثة، وكان متفهّما لوضعها ولوقع ما تعرّضت له من ظلم في نفسها.

في ذلك الوقت، قاست الصحافية اكتئابا حادّا أثر على علاقتها بالمحيطين بها، ولكنّها لم تندم، اختارت البطالة ولم تسكت عن التحرّش الذي ما زال نقطة سوداء ترتسم أمامها كلما تناهى إلى مسمعها حديث عن تحرش في صفوف الصحافيات، أو عادت بالذاكرة إلى الوراء.

وتفاصيل التحرّش عموما، تظلّ عالقة بأذهان من يتعرّضن له خاصة إذا ما مارسه شخص ذو سلطة ونفوذ، وقد تخف وطأة حضور هذه التفاصيل حينما تتخطّى الأنثى حاجز الخوف بالإفصاح عن التحرش.

تجليات التحرّش وأساليبه تختلف من متحرّش إلى آخر، ويتراوح بين النظرات والكلمات والإيحاءات واللمسات، كما تختلف انفعالات النساء في مواجهته، ولكنهن يلتقين عند نفس شعور الوجع، خاصة إذا كن من الفئة التي تبتلع هذه الممارسة خشية مواجهة المجتمع.

ولئن ظلّ التعاطي مع موضوع التحرش الذي يطول الصحافيات في غرف التحرير "مناسباتيا". وظلت التشريعات والقوانين حبرا على ورق، فإنّ بعض الصحافيات اليوم بتن يثرن هذا الموضوع بهدف إيجاد حلول جذرية لظاهرة كامنة مسكوت عنها في كثير من المؤسسات الإعلامية.

وفيما تغالب الأثر النفسي لحادثة تحرّش تعرّضت لها في أوّل مقابلة لها مع مديرها المباشر في قناة تلفزيونية، لا تتوانى صحافية أخرى عن فضح المتحرشين وكأنها تنتقم في شخوصهم من ذلك "الرجل" الذي تحرّش بها وألحق بها وجعا نفسيا لن يمّحي.

في دقائق معدودات تبدّد حلمها في العثور على عمل وهي التي عانت البطالة طويلا، وتحوّل فرحها كابوسا كلّما تذكّرت الحادثة التي جعلتها تفرض مسافات أمان بينها وبين الرجل، مهما كانت صفته خاصة في العمل، فهي تتوقع السيئ قبل الحسن.

"ما أجمل نهديك" تتلو الكلمات وتبلع ريقها. تستحضر ما قاله مديرها المباشر في أوّل لقاء معه، بعد أن خاضا نقاشا عن محتوى الفيديوهات التي تقدّم فيها قراءات سياسية، فيما كانت تنتظر رأيا حول أدائها، لكن في الضفة الأخرى متحرّش يترصّد تفاصيل جسدها.

بعد أن سعت جاهدة إلى استيعاب كلماته، أعربت له عن استيائها من تصرّفه غير اللائق وغير المهني قبل أن تغادر المكان دون التفاتة، وتودّع عملا فارقته قبل أن تناله لأنّها اختارت مواجهة المتحرّش ورفضت السكوت عن صنيعه.

هي ليست الوحيدة التي خسرت عملا لأنها اشترت نفسها وأبت إلا أن تواجه زميلها أو مديرها المتحرّش، ولم تتحجّج بالبطالة لتسكت عن كلمات أحدثت شرخا في نفسها، كما تروي، وهي التي اختصر محدّثها سنوات دراستها وتجربتها المهنية في جسمها.

إذن فالحياة المهنية للصحافيات اللواتي يتعرّضن للتحرّش في مهب الخطر، إن هن تمرّدن على نواميس المجتمع وجهرن بتعرضهن للتحرّش في مؤسسات عملهن، يبذلن مجهودا في تقديم مادة صحفية جيّدة، ولكن نظرات بعض الذكور لا ترى غير تفاصيل أجسادهن.

وفي الغالب، تعجز بعض الصحافيات عن إثبات التحرش الجنسي، ذلك أن المتحرّش يتعمّد تصفّح صور ذات إيحاءات جنسية أحيانا، أو يلامس كتفيها أو أجزاء من جسدها بطريقة غير بريئة، خاصة إذا ما اختلى بها أو سألها عن ماضيها.

محاولات تحرّش تصفها صحافية بالمقنّعة لأنه يصعب إثباتها، ولأنها مرتبطة بإيحاءات وإيماءات تجعل مديرها في العمل ينتقد تأويلها لكلماته ونظراته في كل مرّة تواجهه بمحاولات التحرّش، حتّى إن الأمر بلغ به حد نعتها بالسطحية في أكثر من مناسبة.

"أريد أن تكسري الحاجز بيننا، يجب أن تليّني من طبعك قليلا في التعامل معي، وأنا في المقابل أكون سندك وأساعد في الارتقاء الوظيفي"، بعض من العبارات التي يردّدها على مسامعها كلّما اجتمعت به في مكتبه، عبارات يرفقها بنظرات غير بريئة ومستفزّة.

وما يؤذي الصحافية أكثر أنّها حينما تحتج على كلمات مديرها يتهمها بأنّها أساءت الفهم، وأنّها أوّلت كلماته بطريقة خاطئة، وهي اليوم مضطرة لتجاوز تلميحاته ونظراته التي تكاد تخترق جسدها، الأمر الذي لاحظه زملاؤها في أكثر من مناسبة.

ورغم قناعتها أنّ مديرها متحرّش، تعزّزها شهادات زميلاتها، إلا أنّها لا تملك أن تواجهه إلا بردود مبعثرة يغلب عليها الانفعال لما تنطوي عليه كلماته من وقع سيئ في نفسها، خاصة إذا ما صاحبتها تلميحات جنسية مستفزة.

ورغم معاناتها من اضطرابات نفسية، إلا أنّ الصحافية لم تغادر عملها أو تسكت عن التحرّش، بل تعلّمت أن تواجه المتحرش بلغة يفهمها.

القصص كثيرة، لكن لا بد أن أحكي قصة الصحافية التي يستغل فيها مسؤول تحرير خلو المكان إلا من زميلته "المتحرّرة"، ويغادر مقعده ليلقي بكل ثقله على كتفيها من الخلف ويمرر يده على رقبتها وصدرها.

وفيما هو يمعن في تصفّح جسدها، كانت هي تغرق في وجوم مدقع، لا تقوى حتّى على التنفس بطريقة طبيعية وفق روايتها، وصمتت عن التحرّش لأن تهتمها الجاهزة أنّها "متحرّرة"، ولباسها "الفاضح" هو السبب في استثارة المسؤول.

وإن كان الزميل نفسه يمارس التحرّش مع زميلات أخريات، إلا أن الأمر لا يتعدّى النظرات والإيحاءات بشهادتهن، فيما تخطّى كل الحدود معها لأن "المتحرّرة" في نظره متاحة لكل الرجال أنّى أرادوا أن يمارسوا التحرّش، وكأنّها دعوة لاستباحة جسدها.

عقد من الزمن يمر على الحادثة دون أن تنساها، وما زالت تعاني من تبعاتها إلى اليوم، زاد في معاناتها أنّها لم تتكلّم أو تفضح المتحرّش خوفا من أن تسمع الكلمات ذاتها التي تتردّد على مسمعها حينما تشكو تعرّضها لمعاكسة في الشارع، فما بالك والأمر حدث في غرفة التحرير!

أمثلة التحرّش المسلّط على الصحافيات في غرف الأخبار كثيرة، وردود أفعالهن مختلفة بين مطبّعة معه أو رافضة في صمت، والثغرات المتعلّقة بهذا الفعل الذي لفّه الكتمان والتعتيم عديدة في المؤسسات الإعلامية، وعادة ما ينتهي الأمر بتحوّل "الضحية" إلى "متّهمة".