2021-06-29 02:52
"مختبر الأفكار" للصحافة العلمية من أكاديمية دويتشه فيله (DW ) في بيروت: لتشجيع وتطوير سبل طرح المواضيع العلمية وتمكين الصحفيين من الإبداع لملاقاة حاجات الجمهور
اضطلعت الصحافة ووسائل الاعلام، على مر العقود، بدور هام في التوعية، التثقيف الصحي، والتأثير الجماهيري (على المديين القصير والبعيد) لاستحداث تغيير في نمط سلوك صحي لقاعدة شعبية تركن اليها وتعتبرها جانباً موثوقاً في مجالات طرحها، وتستقي منها ما تحتاج اليه ولم يتوفر لها، بالبساطة والتوجه المطلوبين، في المنصات والمراجع الأكثر تخصصاً. وقد ساعد في ترسيخ هذا الدور قدرة وسائل الاعلام على الوصول الى الشريحة الأكبر والأكثر تنوعاً من المتابعين، من مختلف المستويات العلمية والفئات العمرية والاجتماعية، على تنوع مشاربها واهتماماتها. ولطالما زادت الازمات الصحية العالمية، وخصوصاً الوبائية منها، في ثقة الجمهور بالوسائط الإعلامية التي أدت دورها بالمهنية والحرفية المرجوة، كما رفعت من قبول الرسائل الصحية العلمية الموجهة إليهم.
"جماهيرية" تهدد "الثقة"؟!
في عصر التطورات المتسارعة، انتقلت "صناعة الاعلام" من الاكتفاء بوسائلها التقليدية، بين المكتوبة والمرئية والمسموعة منها بين الصحف والمجلات، الإذاعات والتلفزيونات، الى التبحر في مجالات الاعلام البديل وصحافة المواطن وتشعبها مع توفر خدمات الانترنت حول العالم، لتؤمن شبكة اتصال وتواصل عبر المواقع الالكترونية ومنصات مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقاتها. ولذلك كان لا بد لوسائل الاعلام من تطوير مناهج وسبل تأمين الاتصال بين "مصدر المعلومة" ومتلقيها، ودراسة الأسلوب الأنجع، خصوصاً في مجالات الصحافة الصحية والعلمية التي غالباً ما تتطرق الى مواضيع "معقدة" لتحاول تبسيطها وتوضيحها، مع الحفاظ على دقتها، ليستسيغها "الرأي العام" ويشعر معها انه بحاجة لمعرفة المزيد عنها، متابعتها، ودمجها في سلوكه الحياتي اليومي، مع توفر إمكانية الوصول الى المعلومات المنشورة في الوقت الذي يختاره المتابع، إضافة الى قدرتها المباشرة على الوصول الى العدد الأكبر من الافراد في اطار سياسات "التدخل الواسع النطاق".
وفي اطار سباق وسائل الاعلام الى تحقيق الجماهيرية الأكبر ورفع نسب المشاهدات والمتابعات لمنصاتها، وهو ما بات متوافراً بشكل شبه مجاني لقاعدة كيرة من الجماهير تتقاسمها معها العديد من المنصات والمواقع الإخبارية المشابهة، خصوصاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، نمت بوتيرة مقلقة ظاهرة الاخبار المغلوطة والمضللة، والتي تم استخدامها لغايات متعددة، منها السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، والصحية، في اطار الحملات الممنهجة.... وإزاء ذلك، برزت معضلة "الثقة" أكثر وأكثر بين جماهير منصات مواقع التواصل الاجتماعي والاعلام البديل وأخبارها، لتعيد ازمة وباء "كورونا" المستجد منذ نهايات العام 2019 "علاقة الثقة والتعلق" التي كانت تترنح بين وسائل الاعلام التقليدية والجماهير، وخصوصاً الشبابية منها بأعمار أقل من 35 سنة (الجزيرة، 2020). وهذا ما طرح تحديات أكبر امامها لتطوير سبل توجهها الى جماهيرها، محافظة على المستوى المطلوب من الاحترافية والمصداقية، وساعية لتحقيق الانتشار الأوسع الممكن للمعلومة التي تسعى لتقديمها لشرائح أكثر تنوعاً من المتابعين ممن ينتظرون "جديدها الموثوق" في ظل "عصف الأخبار المضللة والمغلوطة".
"مختبر أفكار" أكاديمية دويتشه فيله (DW Akademia) في لبنان للصحافة العلمية
"كشفت جائحة كورونا المستجد حاجة العالم الدائمة والملحة الى إعلام واعٍ مسؤول قادر على صياغة المعلومة العلمية (الصحية منها، الطبية، الاقتصادية، الاجتماعية وغيرها) بأسلوب يمكنه من الوصول الى القاعدة الأكبر من جماهير قد لا يشكل المجال العلمي أبرز اهتماماتها... فالمؤكد أنه لا يمكن السيطرة على الوباء دون إعلام قوي قادر ومؤثر يتمتع بالقدر المطلوب من المصداقية والمنهجية التي تكسبه ثقة متابعيه".... من هذا المنطلق تشرح السيدة منى نجار، مديرة برامج أكاديمية دويتشه فيله في لبنان، في تصريح للجنة دعم الصحفيين (JSC) عن حيثيات انطلاق فعاليات "مختبر أفكار الصحافة العلمية" في العاصمة اللبنانية بيروت في حزيران-يونيو 2020.
فالأكاديمية التي افتتحت مكاتبها في بيروت أواخر العام 2019، تسعى من خلال برامجها المتعددة الى السعي للتطوير الإعلامي (عبر تأمين الديمومة الإعلامية (Media Viability) ودعم صحافة المواطنة (Citizen Journalism) وغيرهما...) ودعم احترام حقوق الانسان في العديد من دول العالم، كما لتأمين التدريب اللازم على المهارات (Mentorship Programs)، خصوصاً في ما يتعلق بالاعلام البديل (Alternative Media)، حيث يتم حالياً دعم 9 منصات "إعلام بديل" بالتعاون مع جهات محلية غير حكومية (منظمتي مهارات والجنى)، ومساعدة وسائل الاعلام على تطوير نماذج أعمال منتجة (Business Models).
أما فيما يتعلق ببرنامج "مختبر الأفكار للصحافة العلمية" الذي اطلق في بيروت بتمويل من الوزارة الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية لمدة عام في اطار متابعة مكافحة انتشار كوفيد-19 وتبعاته (كما يطبق برنامج الصحافة العلمية في تونس أيضاً)، فتوضح السيدة نجار أنه يعتمد على مبدأ " Human Centered Design " (التفكير المتمحور حول الانسان؛ وهو مبدأ عالمي معتمد في كبرى الشركات والمؤسسات العصرية، ومنها DW نفسها) ... وفي "مختبر الأفكار"، سعت إدارة المشروع لمشاركة صحفيين واعلاميين وصانعي محتوى من وسائل إعلامية مختلفة وأصحاب أفكار ومشاريع تتعلق بالمواضيع العلمية التي تحتاج الى منصات إعلامية لطرحها للجمهور.
وأما عن "مختبر الأفكار"، فهو ليس ورشة عمل او ورشة تدريب تقليدية يتلقى فيها المتدربون مبادئ وخبرات ومعارف فقط، يكون "المشارك" هو "محور" الاهتمام، بحيث يسعى المشرفون والمدربون على مساعدتهم في استنباط وتطوير الأفكار الإبداعية التي يمكن ان تطرحها كل منصة او وسيلة، مع أخذ الموضوع العلمي قيد الطرح بعين الاعتبار، الفئات المستهدفة (اعمارها، حاجاتها، أسلوب حياتها، كيفية تطوير الحلول وابتكار سبل تلبية حاجاتها، ثم كيفية تلقي التغذية الراجعة منها (Feedback)، ليستتبعها ادماج للتعديلات في العملية الإنتاجية مجدداً وصولاً، لربما بعد أكثر من عملية تطوير للطرح، الى الحل الأقرب ما امكن الى تأمين حاجة المتابعين.... "في المرحلة الأولى من مختبر الأفكار، سعينا لمساعدة الصحفيين والإعلاميين كما الناشطين في المجالات العلمية (صحية، بيئية، اقتصادية، اجتماعية...) الذين توجهنا إليهم لتبني منهجية تتمحور حول حاجات المتابعين وتطوير أفكار جديدة أكثر ملاءمة لتتناسب مع تطلعاتهم وتطلعات جماهيرهم. ثم سنتنقل قريباً الى المرحلة التالية (نهاية شهر آب-أغسطس 2021)، فتهدف إلى تدريب صحفيين وصحفيات مدربين ومدربات ليقوموا في مرحلة لاحقة بتدريب صحافيين مواطنين".
وسائل الاعلام ومتابعوها يسعون للتطوير والملاءمة
مع تأكيد السيدة نجار أن الأزمة المصيرية التي أوجدتها جائحة كورونا حول العالم جعلت الأفراد يسعون للحصول على المعلومات الوافية من مصادر موثوقة مقدمة بلغة هم قادرون على تلقيها، استيعابها، واتخاذ القرارات الواعية المسؤولة بناء عليها، سواء كان لناحية احصائيات أحوال انتشار الوباء حول دول العالم، عوارضه، سبل انتقاله، تاثيراته القصيرة والطويلة الأمد، تبعات الجائحة الاقتصادية والاجتماعية محلياً ودولياً، اخبار اللقاحات وما ترافق مع اطلاقها من ضخ هائل للأخبار المغلوطة والمضللة. وبذا كانت الحاجة الى الصحافة العلمية، الطبية في حالة كورونا على وجه الخصوص، مثالاً للدفع قدماً في مجال تفعيل الصحافة العلمية وانخراط المتابعين كما "المنتجين" فيها.
وهنا توضح السيدة سحر شرارة، وهي مديرة مشروع في اكاديميةDW في بيروت ومدربة في "مختبر الأفكار للصحافة العلمية"، ان تفاعل المشاركين كان لافتاً جداً. "صحيح أن اختيار المشاركين اعتمد على مجموعة من الإعلاميين والصحفيين، صانعي المحتوى، والناشطين من صغار السن (كون المشروع يبحث في مواضيع اكثر تطوراً وحداثة)، إلا ان تفاعلهم واندماج المجموعات، على اختلاف خلفياتها، كان مميزاً وساهم في إنجاح التجربة الأولى من IdeaLab For Scientific Journalism" الذي انطلق في بيروت".
وإذ اشارت شرارة الى ان هدف المشروع هو مساعدة أصحاب المصلحة الثلاثة (صحفيون واعلاميون وصانعو محتوى، مدراء تحرير ممن يعملون على تطوير اهداف وحاجات المؤسسة، وأصحاب الشأن من خبراء او اشخاص يبحثون عن منصات لنشر أفكارهم) على تكامل احتياجاتهم المختلفة بالسعي لإيصال الفكرة العلمية الموثوقة الى العدد الأكبر من المهتمين ومن غير المهتمين من الفئات المستهدفة على حد سواء.
الإبداع في الصحافة العلمية حاجة ملحة لمواكبة تطلعات الرأي العام
من خلال "مختبر الأفكار" للصحافة العلمية وغيرها من المشاريع الهادفة الى تأمين ديمومة العمل الإعلامي والارتقاء به وتطويره مع بروز صحافة المواطنة والاعلام البديل كما المناطقي وغيره في لبنان، تسعى مشاريع اكاديمية DW لتطوير الاعلام وصولاً الى تحقيق الغاية الاسمى في المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان وهي حماية الحق في حرية الرأي والتعبير، إضافة الى خلق رأي عام واع لحقوقه تكون فيه وسائل الاعلام داعماً ومساهماً في التنمية المستدامة في المجتمعات، خلال فترات الأزمة وبعدها كما قبلها.
ويبقى الجزء الأكبر من هذه المهمة على عاتق وسائل الاعلام والصحفيين أنفسهم للاضطلاع بالدور الإنساني والوطني المنوط بها، لتثقيف مجتمعاتها واثارة القضايا الطارئة التي تهدد مصيرها: فمهما تنوعت الوسائط الإعلامية وتعددت أهدافها، يبقى للاعلام سلطة تأثيرية لا يستهان بها: فهي وعلى الرغم من عدم "ابلاغها" لمتابعيها أحيانا عن ما "يجب" ان يسعوا اليه أو يحذروا منه، إلا أنها تستطيع التأثير على تفكيرهم عبر معدلات اثاراتها للمواضيع الطارئة (ولعل من أبرزها المواضيع الطبية والصحية في وقت انتشار "كوفيد-19" حالياً) او أسلوب طرحها للتأكيد على أهميتها لجميع أفراد المجتمع، او العكس تماماً بحال التعتيم الإعلامي.
فالإعلام كان وسيبقى حليفاً مهماً قادراً تحقيق الغايات الجماهيرية، كونه مصدرًا للمعلومات "الصحيحة" بالنسبة لمتابعيه من جهة، كما يستطيع ان "يبث" الأفكار المرجوة الى الفئات المستهدفة وان لم تكن من متابعيه، بشكل مباشر، عبر "الابداع" في سبل طرح أفكاره ووتيرتها، خصوصاً في فترات الأزمات الصحية والعسكرية، الاقتصادية والاجتماعية.