من التظاهرات ضد التحرش والاغتصاب في بيروت (غيتي)
نور صفي الدين- المدن
في العادة يكون الاعلام من المنابر الأولى التي تطرح ملف التحرش الجنسي، بل في بعض الحالات، يشير الاعلام بالإصبع الى مرتكبي هذا الفعل المشين، ليبدو وكأنّ الاعلام نفسه الذي يعالج القضية، بمعزل عنها، أو على الأقل يتمتع بحصانة معنوية نظراً للدور الاجتماعي الذي يمارسه. لكن في الحقيقة، تشير الأرقام في دراسة جديدة أطلقتها مؤسسة "النساء في الأخبار" إلى عكس هذا الاعتقاد، وذلك في مؤتمرها اليوم عبر تطبيق "زوم" ــ بعنوان "التحرش في الاعلام".
شملت الدراسة التي أطلقتها مؤسسة WAN-IFRA بالتعاون مع فريق بحثي من جامعة سيتي لندن، عشرين دولة في العالم العربي، وأفريقيا، وأميركا الوسطى، وجنوب شرقي آسيا بالاضافة الى روسيا. وشارك فيها 2500 شخص يعملون في مجال الاعلام من دون أن تقتصر الدراسة على الإعلاميين. وركّزت على المحاور التالية: مدى فهم فعل "التحرش الجنسي" في الوسط الاعلامي، تحديد مرتكبي فعل التحرش، الانتشار، التبليغ وقنوات التبليغ المعتمدة، التمنع عن التبليغ، ونوعية الاجراءات المتخذة من قبل المؤسسة الاعلامية في حال التبليغ عن حالة التحرش. وقد طرحت الدراسة هذه المحاور ونتائجها بالنسبة لكل من الذكور، والاناث، والأشخاص الذين لا يخضعون لتصنيف جندري ثنائي.
عالمياً، تصدرت أميركا الوسطى أعلى مستويات التحرش في الوسط الاعلامي بنسبة (42%)، تلتها أفريقيا (40%)، ثم المنطقة العربية (27%) وروسيا (21%). في حين تميّز جنوب شرقي آسيا بأدنى مستوى للتحرش بنسبة (20%) بالمقارنة مع الدول الأخرى.
وقد أظهرت الدراسة أنّ أكثر من ثلث الأشخاص الذين تمت مقابلتهم قد تعرضوا للتحرش الجنسي، من بينهم 40% من النساء، حيث بلّغت 20% منهن عن تعرضهن للتحرش في مقابل قيام المؤسسات الاعلامية المعنية باتخاذ اجراءات لنصف الحالات المبلغ عنها فقط.
وشارك من العالم العربي 526 عاملاً/ة في مجال الاعلام، من كل من لبنان والأردن ومصر وفلسطين. وقد بينت الدراسة أن سيدة من أصل ثلاث سيدات عاملات في قطاع الاعلام في العالم العربي، تتعرض للتحرش. كما سجلت مصر أعلى نسبة تحرش (34%) فيما سجلت فلسطين النسبة الأدنى (20%).
التبليغ
ما زالت مسألة التمنّع عن التبليغ عن التحرش تعكس الصعوبات التي قد تقف في وجه الناجيات. ففي العالم العربي، ما زالت 85% من حالات التحرش الجنسي في القطاع الاعلامي غير مبلّغ عنها، بحسب الدراسة. وتعزو مولي شمهندا، مديرة الأبحاث في "النساء في الأخبار" هذا التمنع الى سببين أساسين، يتمثل الأول في الخوف، وقد يكون الخوف من فقدان العمل أو الوصمة أو الرد بالأذية، والسبب الثاني هو غياب آليات التبليغ أو عدم تعريف وتدريب الموظفين عليها في حال وجدَت، أو الخوف من عدم اثبات الفعل بأدلة بحسب ما تتطلب هذه الآليات".
ولا تختلف الأرقام في المنطقة العربية عن الأرقام العالمية الا بشكل بسيط، فعلى الرغم من العدد الضئيل للحالات المبلغ عنها، إلا أن المؤسسات الاعلامية في المنطقة اتخذت اجراءت لأقل من نصف هذه الحالات. ويظهر جلياً التفاوت في اتخاذ التدابير بين الرجال والنساء، فقد لاقت حوالى 50% من التبليغات المقدمة من الرجال، اجراءً مباشراً في مقابل 41% للنساء.
وفي العالم العربي أيضاً، تعتبر النساء أكثر عرضة بمرتين للتحرش الجنسي، مقارنة بالرجال. ويزداد هذ الفارق عند الحديث عن التحرش الجسدي، 19% للنساء و7% للرجال.
مرتكب التحرش
وكشفت الدراسة أن مصدر فعل التحرش الأكثر شيوعاً هو زميل موظف في العمل (42.9%) يتبعه المسؤول المباشر (22.2%)، ثم الإدراة العليا (14.6%)، و(9.6%) من مصادر الأخبار، وقد تكون أي جهة يتعامل معها العاملون/ات في قطاعات أخرى.
وتظهر الدراسة أنّ التحرش مازال موجوداً بشكل كبير في قطاع الاعلام، وهذا ما يؤكد الحاجة الى التعامل مع هذه الظاهرة من خلال إعداد سياسات لحماية العاملين في القطاع والمتعاملين معهم، ونشر ثقافة الحماية، وتوعية الموظفين وتدريبهم على آليات الحماية ليستطيع هذا القطاع أن يبني ثقافة آمنة قادرة على منع حالات التحرش من التزايد والتعامل معها بجديّة.
وخلصت المديرة التنفيذيّة لـ"النساء في الأخبار"، ميلانا والكر، الى القول إنّ "التحرش مرض عالمي مزمن لا يقتصر على مكان أو دولة أو قطاع". واذا كانت لا تزال هناك تعريفات مختلفة وخاطئة للتحرش الجنسي "فالتحرش هو كل فعل جنسي غير مرغوب يقوم لتدنيس وإهانة وتحقير كرامة الإنسان وتهديدها".
وتأتي هذه الدراسة مع انكشاف موضوع التحرش في لبنان نتيجة زيادة التوعية من قبل الجمعيات المعنية بحقوق الإنسان، ولجوء الناجين الى التضامن الجماعي وفضح "المتحرش" عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وكانت قضية الأستاذ "المتحرش" سامر المولوي، في إحدى مدارس طرابلس، آخر هذه القضايا في العام الماضي. لكن هذه الظاهرة المقيتة لا يمكن أن تعالج الا بانسجام سياسات الحماية مع تطبيق القانون المحلي، الذي لم يصدق الناجيات في القضايا التي وَجدت طريقها عبر الإعلام، كقضية الكاهن المتحرش منصور لبكي، و"المتحرش" مروان حبيب. فالتحرش لا يتمحور حول الجنس فحسب، بل يفضح علاقات القوة والسيطرة التي تسمح لأفراد من المجتمع باستغلال أفراد آخرين، وهنا نتحدث عن المتحرشين والنظام الذي يحميهم مقابل الناجين/ات والأشخاص العرضة للتحرش.