ما حرية التعبير التي يجب أن يكون مسموحاً بها على وسائل التواصل الاجتماعي؟ وإلى متى يستمر تكميم الأفواه وقمع الحريات "الانتقائي" في فايسبوك؟

2021-12-23 09:01

التقارير

إلى متى يستمر تكميم الأفواه وقمع الحريات "الانتقائي" في فايسبوك؟

فادي سعد-المدن

في العام 2018، طرح مارك زوكربيرغ، الرئيس التنفيذي لشركة "فايسبوك" ("ميتا" حالياً)، في مذكرة طويلة الأسئلة التالية: "ما القيود التي يجب أن تُفرض على التعبير ضمن وسائل التواصل الاجتماعي؟"، "ما المحتوى الذي يجب منعه، وذاك الذي يجب السماح به؟". الأسئلة طُرحت في سياق طويل عسير وصعب أحياناً من التجاذب الاجتماعي والسياسي والايديولوجي على الدور الذي يجب أن تقوم به إدارة فايسبوك لقيادة عملية تنظيم ذاتية لمحتواه. كان زوكربيرغ خاضعاً في حينها (وما زال) لضغوط هائلة من بعض السياسيين والناشطين المحسوبين على اليسار للعب دور شرطي أكثر صرامة لحركة مرور التعبير على طرقات الفيسبوك (المطالب نفسها وُجّهَت إلى رئيس شركة تويتر). في الطرف الآخر، كانت جهات سياسية وغير سياسية تندب غياب حرية التعبير على الفيسبوك، وديكتاتورية الحكومة الفيسبوكية الغامضة في خنق الأصوات الحرّة وتكميم الأفواه. لا يهمّنا هنا الدوافع السياسية خلف مطالبات هذا الطرف المستاء من الأخبار الكاذبة أو ذاك المستاء من الرقابة المنحازة، لأن الخلاف في جوهره أهم من السياسة وأعمق من نفاقها.

السؤال مهم جداً: ما حرية التعبير التي يجب أن يكون مسموح بها على وسائل التواصل الاجتماعي؟ في البدايات، وضعت إدارة الفيسبوك (كأضخم وأهم هذه الوسائل) معايير وإرشادات تنظّم محتوى التعبير فيه. لكن ذلك لم يحمِ الفيسبوك من تلقّي النقد والتقريع المستمر على تراخيه وعدم صرامته في إدارته لمحتواه. بالتدريج أدّى هذا إلى تشديد متصاعد في هذه المعايير وتوسُّعٍ في البنية البيروقراطية التي تسهر على تطبيقها. حتى وصلنا الآن إلى جهاز "أمني" فيسبوكي متكامل وظيفته حراسة المحتوى وتشذيبه. في مجلة "فوربس" الأميركية تقرير يوضّح قليلاً بنية هذا الجهاز. جرس الإنذار الأول يبدأ بخوارزميات تستعمل الذكاء الاصطناعي لتنقية المحتوى والتنبيه على الإشكالي فيه. مستخدمو الفيسبوك يستطيعون دقّ هذا الجرس أيضاً بالإبلاغ عّما يُعتبر إشكالياً بنظرهم. يتولّى بعد ذلك محكّمون متعاقدون مع الفيسبوك مراجعة المحتوى الموسوم بـ"الإشكالي"، لتقرير صلاحية بقائه أم ضرورة حذفه. وفي أعلى الهرم الأمني، أنشأ الفيسبوك العام 2020 مجلساً أعلى للرقابة بمثابة محكمة دستورية عليا، يمكن استئناف قرارات الفيسبوك لديها. بالطبع، كما المحاكم الدستورية العليا، لا يراجع هذا المجلس سوى عددٍ محدودٍ من الحالات المهمة المــُحالة إليه، كما حدث في حالة حظر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.

يعمل الآن لدى فايسبوك أكثر من 15000 مُحكّم. هذا عدد صغير جداً في مواجهة محتوى هائل. فهؤلاء المحكِّمون يراجعون ثلاثة ملايين بوست أو فيديو أو صورة يومياً، أي بمعدل 200 بوست يومي تقع تحت رحمة مقصلة محكِّم واحد. هذا عدد كبير بالنسبة إلى شخص واحد. أخطاء كثيرة تحدث، والكثير من المحتوى يُحذف بالخطأ. بحسب زوكربيرغ نفسه، لا تقلّ هذه النسبة عن العشرة بالمائة. وعلى الأغلب، نسبة الخطأ الحقيقية أعلى بكثير.

من الأرقام السابقة، ليس من الصعب الاستنتاج أن فايسبوك يرتكب مجازر بحق حرية التعبير. يتبادر إلى الذهن هنا العديد من الأسئلة: ما المعايير التي يعتمدها الفيسبوك أولاً لتحديد صوابية المحتوى وما هي مرجعيّتها القانونية أو الأخلاقية؟ ما هي المؤهلات التي يعتمدها الفيسبوك عند اختياره المحكّمين الذين يقررون مصير حرية تعبيرنا، أحد أهم الحقوق التي توافقت عليها حضارة الإنسان الحديث؟ والسؤال الأهم الذي يجب أن يسبق كل ما عداه من أسئلة، ما المقصود تماماً بـمفهوم "حرية التعبير" التي نتحدّث ويتحدّث عنها الجميع؟ ربّما يجب هنا أن نمرّ سريعاً على تاريخ تشكّل هذا المفهوم.

هناك شبه اتفاق أن أول ظهور للمفهوم يعود إلى أدبيات الديموقراطية اليونانية القديمة منذ القرن الخامس ق.م، وكان له حضور أيضاً في أسس الجمهورية الرومانية القديمة. حديثاً، تبلور ونضج المفهوم بشكل أساسي في رحم عصري النهضة والتنوير الأوروبيين. في أطروحات مفكرين كإيروسموس وميلتون ولوك وجان جاك روسو وفي المخاضات الفكرية والسياسية الأوروبية في إنكلترا والسويد وبأوضح تجلياته في "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" الذي تبنّتْه الثورة الفرنسية (1789). انتقل المفهوم إلى الدستور الأميركي الناشئ وأصبح جزءاً من التعديل الدستوري الأول في الولايات المتحدة. لاحقاً، أصبح حق حرية التعبير أحد الحقوق الأساسية في "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" (1948) الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة.

وكأي حقّ آخر من حقوق الإنسان الفرد، حرية التعبير لم تكن مُطلقة من دون قيود. فمنذ عام 1859، أدخل الفيلسوف الإنكليزي جون ستيوارت ميل "مبدأ الضرر" كأحد الحدود التي تتوقف عندها حرية التعبير: إذا كانت حرية التعبير تؤدي إلى أذية أو ضرر واضح لشخص آخر، فمن المبرّر الحدّ منها وتقييدها. اُعتمد مبدأ الضرر لاحقاً في الممارسات الديموقراطية كأحد الشروط الضرورية للحفاظ على حرية تعبير شخصية وسلمية في الوقت نفسه. من الواضح هنا أن الخطاب الذي يدعو إلى العنف والقتل والإبادة، أو الذي يؤدّي إلى أيّ من ذلك، يقع خارج الحدود المسموح بها. حتى الآن تبدو الأمور واضحة إلى درجة ما. تستطيع أن تقول ما تشاء، ما دام قولك لا يؤدي إلى أذيّة جليّة للآخر. لكن "مبدأ الضرر" لم يبقَ بهذا الصفاء والوضوح.

مع تصاعد وتطوّر النشاط المدني والحقوقي في ما يخص حقوق الأقليات والجماعات المـضطَّهدة تاريخياً طرأتْ تغييرات على التفكير السياسي الاجتماعي في الغرب. هذا مهّد التربة الثقافية لاستقبال وقبول أفكار الفيلسوف السياسي والقانوني والأستاذ الجامعي الأميركي جويل فاينبيرغ في العام 1985. فاينبيرغ طرح "مبدأ الإساءة" (إضافة إلى "مبدأ الضرر") كأحد الحدود التي يجب أن تحدّ من حرية التعبير. مع ظهور "مبدأ الإساءة"، أصبح على القول أن ينتبه ليس فقط إلى ما قد يسبّبه من أذية للآخرين، بل إلى ما قد بسبّبه من إساءة. وبطبيعة الحال، الإساءة هنا تتضمّن الإساءة النفسية. يمكن تخيّل الأسئلة الكثيرة التي يثيرها "مبدأ الإساءة". كيف تُعرَّف الإساءة؟ من يقرّر إذا حصلت إساءة (خصوصاً النفسية) أم لا؟ هل يكفي أن يشعر المتلقِّي بالإساءة حتى تثبت حصول الإساءة؟ وهل النيّة لدى القائل تدخل في معادلة البتّ في حصول الإساءة؟ هل سيكون لدينا معجم للإساءات الممكنة يحدّد ما يجب أن يُقال وما يجب أن يبقى طي الكتمان؟ من سيؤلف هذا المعجم؟ ومع أن هذه المبادئ، قانونياً، تخص علاقة الدولة بالأفراد، إلّا أنها أصبحت القواعد الثقافية العامة التي تحكم أيضاً علاقات أفراد المجتمع في جميع المجالات.

هذه الأسئلة وإجاباتها المحتملة باتت مؤخراً محلّ جدال قانوني واجتماعي ضمن سياق الجدال حول حريّة التعبير. مبدأ "عدم الإساءة" كسب الكثير من النقاط في العقد الأخير على حساب المساحة التي كانت ممنوحة لحرية التعبير، حتى وصل الأمر إلى تغليب الرغبة في عدم الإساءة على الرغبة في الحفاظ على مساحة تعبير حرّة. باتَ أيّ نقد أو رأي مخالف في ما يخص قضية عامة ثقافية فكرية أو اجتماعية عرقية أو جنسية أو إثنية ما، قابلاً للقمع والحذف إذا اُعتبر أنه يسيء إلى حساسية لدى طرف آخر ما. وسائل التواصل الاجتماعي كانت المسرح الأكبر لهذا الإلغاء المباشر (من قبل إدارة الفيسبوك مثلاً) وغير المباشر (من قبل قطيع المستخدمين أنفسهم). العديد من القرّاء يمكن أن يشهدوا على تعرّضهم في وقت ما إلى حذف لأحد منشوراتهم أو لحسابهم مؤقتاً لأن الكلام لم يوافق معايير الفيسبوك (الغامضة)، أو لم يوافق الحسّاسية العامة الرقيقة. إنها ثقافة "عدم الإساءة" التي تضرب عرضاً بحرية التعبير مهما كانت مزعجة.

كما متوقَّع في حالات كهذه، كل ذلك التطرّف اللاصحي في تغليب الحسّاسية الفردية على مبدأ الحرية، أدّى إلى ارتفاع أصوات عديدة (أفراداً ومنظمات)، ليبيرالية ومحافظة، معبّرةً عن قلقها وتبرّمها من ذلك التعقيم التدريجي للتعبير. في أحيان كثيرة، بدتْ مطالب السياسيين من مارك زوكربيرغ خلال جلسات استماع الكونغرس (كان يحلو لي أن أتفرّج على بعضها) بتنقية الفيسبوك من الأخبار الكاذبة، ومن خطابات الكراهية والتحريض، أو كل ما يمكن أن يزعج جماعة ما؛ بدتْ مطالب لا تخلو من اللاعقلانية والكوميديا والاستعراض. فالفيسبوك في النهاية هو مرآة للحياة الواقعية. حياة واقعية افتراضية موازية. كيف يمكن أن نطلب منه (أي من الفيسبوك) أن يكون مختلفاً عن العالم الحقيقي المليء بأشخاص يتفوّهون بخطابات قد لا تعجبنا، خطابات أحياناً مليئة بالكراهية والعنصرية والجهل. ماذا نفعل مع هؤلاء في الحياة الواقعية؟ بالتأكيد لا نحذفهم ونقتلهم. غالباً نتجاهلهم أو نحاججهم أو ننبذهم. لماذا على الفيسبوك أن يكون أكثر نقاءً. ثمة رغبة لدى البعض في خلق حياة افتراضية مثالية لا تمت للواقع بصلة، حتى لو كان ذلك على حساب مكتسبات أُهدر الكثير من أجل الحصول عليها.

في هذه الحقبة من الصوابية السياسية المتطرّفة وسياسة الهويّات الجمعية، هناك ميل إلى خلق فقاعات هشّة عقيمة من الصمت الفكري والجدلي يحرسها "مبدأ الإساءة". هذه في الحقيقة أداة تخريب ثقافية وفكرية على المدى الطويل، عدا أنه يخلق جيلاً بشرياً هشّاً عاطفياً، يعتبر أن أيّة فكرة مُسيئة، أو أية فكرة لا تعجبه يجب حذفها أو حذف صاحبها. مَن يمتلكون ذاك القدر من الحسّاسية القابلة للتجريح بسهولة، عليهم عدم التواجد على مواقع التواصل الاجتماعي بالأساس. نعوم تشومسكي، المفكّر وأستاذ اللسانيات الأميركي، يعتبر أن اللغة هي في الأساس أداة تفكير أكثر من كونها أداة توصيل. أكثر من 90٪ من الكلام الذي نقوله نقوله لأنفسنا، داخل رؤوسنا أثناء عميلة التفكير. المونولوجات الداخلية هي عمليات تفكير ذاتية، واسطتُها اللغة. هكذا كانت اللغة، خلال مرحلة تطور الهوموسيبيان، أحد العوامل الرئيسية في دفع الذكاء البشري إلى ما وصل إليه الآن. لذلك الحدّ من حرية اللغة هو الحدّ من حرية التفكير. الحدّ من القول هو إخراس للفكر، بغضّ النظر عن محتوى الفكر. عملية التفكير بطبيعتها قد تكون عملية جارحة لأحدّ ما، الأجدى أن نعتاد على شفراتها بدل تثليمها وتكسيرها.

يُقال إن خلف النيّات الطيبة تختبئ أحياناً أسوأ الأفكار. تحكيم "مبدأ الإساءة"، مهما كانت مقاصده النبيلة، فكرة سيئة على المدى الطويل. أكثر من يحبّ استعمال "مبدأ الإساءة" في قمعهم لمن يخالفهم في الرأي هم الطغاة. يجب العودة إلى "مبدأ الضرر" كناظم وحيد عام للتعبير، حتى تأخذ حرية التعبير أوسع مساحة ممكنة. يجب أن نعتاد على سماع كل شيء مهما كان جارحاً لنا، ومجادلة الفكرة إما بالفكرة المضادة وإما بالتجاهل. الفيسبوك وأقرانه من وسائل التواصل يرضخون للضغوط السياسية والاجتماعية والطهرانية، وهذا ليس صحيّاً. ليترك الفيسبوك أفراد المجتمع نفسه يواجهون أصحاب الأفكار البغيضة، بأقل قدر من القيود، عوض أن يفعل ذلك بنفسه. مع انسياب اللغة، تنساب الأفكار وتتشابك. هذا ثمن كاف كي نتحمّل أبغض الكلام وأسفله.