2021-11-22 12:50
عواد جمعة-معهد الجزيرة للإعلام
- هل شاهدت هذا الخبر العاجل؟
- ماذا؟.. أي خبر؟ هذا الخبر.. نعم، سأدعو الفريق حالاً.
هكذا يبدأ في العادة الخبر العاجل في غرفة الأخبار بقناة الجزيرة الإنجليزية ومقرها العاصمة القطرية الدوحة. يندفع الأدرينالين في الدم ويصبح الجميع في حالة من الذهول، كأنهم يتساءلون: هل الخبر صحيح؟ وتبقى جميع الإجراءات معلّقة حتى يرد تأكيد الخبر من الميدان، فيبدأ فريق العمل بكتابة مقدمات للخبر ويطلبون خريطة لتحديد موقع القصّة الإخبارية والحصول على مزيد من المعلومات.
في 29 مارس/آذار المنصرم قام شخص ما باختطاف طائرة. كانت ردّة فعل زميلي للوهلة الأولى هي: ماذا، حقّاً؟ وجميعنا انتابتنا الصدمة ذاتُها، وكأن الأمر يذكّر بتلك الفترة من السبعينيات والثمانينيات حين شاعت حوادث خطف الطائرات.. هل تذكرون تلك الأيام؟ لم يكن لدينا وقتها إنترنت ولا تويتر ولا وسائل التواصل الفوري التي نملكها الآن.. لم يكن هناك سوى الهاتف القديم.. وسنعود بعد قليل للحديث عن الانكماش الحاصل في عنصري الوقت والمسافة في عصرنا هذا.
كيف نقرر إذن إن كان يجدر بنا الحديث عن خبر ما أو لا؟ ما نقوم به في الجزيرة هو أننا نتواصل أولاً مع أحد أعضاء فرقنا الكثيرة المنتشرة حول العالم، إذ لدينا مراسلون في أقصى المناطق بالشرق حتى الصين وصولاً إلى الولايات المتحدة في الغرب، وإلى جنوب أفريقيا في الجنوب. فمنتجو الأخبار في الميدان هم من صفوة الصحفيين، ولا سيّما من يعمل منهم في دول مثل أفغانستان والعراق وباكستان والصومال وجنوب أفريقيا وغيرها.
وحين تتطوّر قصة إخبارية ما بشكل سريع فإنه قد يصعب تتبّع آخر التطورات والتحديثات، وأول خطوة أقوم بها في هذه الحالة هي التواصل مع الفريق الميداني في النقطة الأقرب إلى الحدث، فيقوم أعضاء الفريق بدورهم بالتواصل مع مصادرهم في الميدان. فإن كان الحدث انفجار سيارة مثلاً فإنهم يتواصلون مع مصادرهم من الأجهزة الأمنية، أما إن كانت المنطقة بعيدة عنهم فإنهم سيبحثون في هواتفهم عن معارف يمكن الوثوق بهم في النقطة الأقرب إلى الحدث. وفي ما يتعلق بقصص الأخبار الدبلوماسية والسياسية، فإننا نتواصل مع شخصيات سياسية أو وزراء أو مستشارين أو ما شابه، وهكذا نتمكن من الحصول على سلسلة من ردود الأفعال في خضمّ تطور أحد الأخبار العاجلة.
تجري جميع هذه الاتصالات في غضون عدّة ثوان ودقائق، ويستمر الفريق بالبحث مباشرة عن المزيد من الأشخاص الذين بوسعهم تقديم المزيد من التفاصيل عن الحدث من هذه المنطقة أو تلك. ومن الأمثلة غير البعيدة حادثة خطف الطائرة التابعة للخطوط الجوية المصرية التي كانت تحمل 70 مسافراً على الرحلة رقم 181 المتوجّهة إلى القاهرة من مطار الإسكندرية، حيث قام المدعوّ سيف الدين مصطفى باختطاف الطائرة وتحويل مسارها نحو قبرص، واحتجز المسافرين والطاقم رهائن لعدة ساعات في مطار لارنكا الدولي.
في غضون ثوانٍ من ورود الخبر العاجل، كان جميع من حولي على هواتفهم يحاولون التواصل مع أشخاص قد تتوافر لديهم معلومات عمّا يجري، أو قادرين على تأكيد بعض الحقائق والتقارير الواردة عبر الإنترنت. وحين هبطت الطائرة ووصلت أخبار حول سلامة ركّابها، التقطنا أنفاسنا وشعرنا بارتياح كبير، فالركاب لم يصابوا بأذى، كما أننا نجحنا في متابعة القصة ومواكبة تطوراتها لحظة لحظة.
حين أنظر إلى هذا المثال الآن يبدو لي مشهداً سورياليّاً.. في البداية جميع المتواجدين في غرفة الأخبار ظنّوا أن الأمر مجرّد مزحة، وبدا الخبر عجيباً أكثر حين علمنا أن الجاني اختطف الطائرة من أجل زوجة سابقة له. لم يكن الأمر قابلاً للتصديق ببساطة. ورغم فداحة الخبر، كان من الصعب تصديقه: رجلٌ يهدّد حياة عشرات الأشخاص رغبةً منه في الوصول إلى زوجته التي هجرته في قبرص. وصار المزاح سيّد الموقف لوهلة في غرفة الأخبار، فأحدهم يسأل زميله: هل يمكن أن تقوم بمثل هذا الأمر؟ وزميل آخر يقول مازحاً: أووه، من الجيّد أننا لسنا في عيد الحب، لا أحد كان يمكن أن يتفوّق على ما فعله هذا الرجل!
ولحظة تأكّد أن الأمر جدّيّ صُعِقنا جميعُنا، وشرع المنتج المنفّذ المكلف بتغطية المنطقة المعنية في الاتصال بجميع فرق مراسلينا الموجودين في أماكن مختلفة قرب الأبيض المتوسط. وبدأ الترجيح بين خيار إرسال فريق اليونان أو تركيا أو لبنان أو فريق آخر من لندن؟ تم التحقق من مواعيد رحلات السفر من هذه المناطق وتحديد الوقت المطلوب لوصول فريق إلى الموقع، ومعرفة المراسل الذي يمكنه الذهاب هناك ومن لا يمكنه، إن كان مثلاً لا يملك تأشيرة أو جواز سفر مناسبا.
كانت المهمّة تتمثل في تحديد الطاقم القادر على الذهاب إلى الموقع بأسرع الطرق الممكنة، ولتحديد ذلك يلزم طرح عشرات الأسئلة وإجراء العديد من الحسابات وتخيّل الكثير من السيناريوهات في أذهاننا، وكلّ ذلك يجب أن يتم في غضون ثوانٍ قبل أن يتّجه طاقم العمل إلى الموقع. كان فريقنا في تركيا هو الأقرب، وتم الإيعاز لهم بالتوجّه إلى هناك، فذهب مراسلنا هاري فوسِت، وهو مراسلنا المقيم عادة في كوريا الجنوبية، وتوجّه إلى مطار إسطنبول وركب أول طائرة متوجهة إلى نيقوسيا، ومن هناك ذهب بالسيارة إلى لارنكا. أما ما حصل بعد ذلك فصار جزءاً من التاريخ.
صحيح أن الترتيبات اللوجستية في حال ورود أخبار عاجلة عنصر بالغ الأهمّية، إلا أن الجانب الذي يوازيه أهمّية وخطورة هو مهمّة التحقق من صدقية الخبر. أحياناً تكون بعض الأخبار في غاية الغرابة إلى حدّ يبدو من الصعب تصديقها. وكانت حادثة قبرص من هذه الفئة من الأخبار. لقد ذهبت حينها على الفور إلى حسابي على تويتر، ونظرت إن كان هناك تصريح من وزراء خارجية البلدين المعنيين، أو تغريدة من الخطوط الجوية المصرية، أو أشخاص قرب الموقع، ثم ذهبت إلى الفيسبوك أيضاً. كنا نحاول التحقق من صورة خاطف الطائرة عبر البحث في صفحته على الفيسبوك، ولكن بدون جدوى لأن هناك آلاف الأشخاص الذين يشتركون معه بنفس الاسم.
هناك -كما هو واضح- تحدٍّ مستمر للتمييز بين الخبر الصحيح والكاذب، وسياستنا التي نتبعها هي: كن أول من ينقل الخبر، وليَكن الخبر صحيحاً، والشرط الثاني يفوق الأول في الأهمّية، فهدفنا هو نقل الأخبار بدقّة. وفي المثال الذي نحن بصدده قررنا أن نتابع البيانات الرسميّة الصادرة من الحكومتين المصرية والقبرصية بشأن الحادثة.
من السبل التي نتبعها لتفادي هذه المشاكل هو أنّنا نجهّز قوائم بالأشخاص الموثوقين عندما يطرأ أي حدث ما. هل هناك صحفيون في الميدان ينقلون الحدث مباشرة؟ الجواب كان نعم، وخلال دقائق معدودة وصلنا إلى صحفي قبرصيّ واستضفناه في نشرة الأخبار ليتحدّث عن آخر التطوّرات في المطار، وقد ساعدنا هذا على الحصول على معلومات واضحة، مع تجنّب نقل أي أخبار غير دقيقة.
في الوقت الذي تزدهر فيه مواقع الأخبار العاجلة على شبكة الإنترنت، صار التخصص في تقديم الأخبار على وجه السرعة والدقة تحدّيا لنا جميعاً. فللتأكد من دقة الأخبار عند غياب مصادر نثق بها على الأرض، نلجأ إلى موقع مثل ستوريفل (Storyful) للتحقق من بعض الأخبار التي تنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يقدّم هذا الموقع صوراً ومقاطع فيديو بشكل مباشر للقنوات الإخبارية، وتعمل لديه فرق عديدة على مدار الساعة تتابع الأخبار العاجلة وتتحقق من مصادرها. وحين نفكّر في الممارسات التي نتّبعها فإننا نراجع الطريقة التي غطّينا بها تلك القصّة ذلك اليوم، ونحدد أين سارت العملية بشكل سليم، ونكشف الجوانب التي يمكن تطويرها، ومن ذلك مثلاً أننا نحتاج إلى صحفيّ متعاون (Fixer) في قبرص في القصّة التي ذكرنا.
تواجه الجزيرة قيوداً متزايدة في العمل ببعض الدول التي تعاني من تدهور من الناحية الأمنية، وللتعامل مع ذلك استخدمت الشبكة عشرات الصحفيين المتعاونين والمراسلين المحليين الذين يعملون ويعيشون في المناطق المعنيّة، فلا تُضطر الجزيرة إلى إرسال مراسلين هناك. كما أنّنا نعتمد في الجزيرة الإنجليزية بشكل متزايد على الجزيرة العربيّة فيما يتعلق بالأخبار من الشرق الأوسط. إن قناة الجزيرة العربية تنقل الأخبار من منطقة الشرق الأوسط وأطراف أخرى حول العالم، ولقد نجحت القناة في تعزيز قدراتها على تغطية الأخبار العاجلة في هذه المنطقة، فبتواجدها الواسع نتمكن من تبادل الأخبار التي ترد من مناطق النزاعات.
نحن نعيش في عالم ينقل الناس فيه أخبارهم لحظة بلحظة، حتى إن الكثير منا يتساءل في غرفة الأخبار التقليدية عمّا يعنيه مفهوم الأخبار العاجلة في عصرنا هذا. فكيف نفرق بين ما هو عاجل وما ليس بعاجل؟ أحياناً على سبيل المثال أجد نفسي مشدوداً حين أرى الشريط الأحمر على شاشة الجزيرة العربية، فزملاؤنا هناك يستخدمون الشريط الأحمر للإشارة إلى الأخبار العاجلة، أمّا نحن فنستخدم الشريط البرتقالي، وقد يختلف هذا اللون من قناة إلى أخرى.
ولكن هل ترانا بالغنا في استخدام هذه الألوان للتركيز على أهمّية الخبر؟ ففي منطقة تهزّها الحروب في العراق وسوريا ولبنان وليبيا والسودان وغيرها، ما الذي يصبح خبراً عاجلاً؟ وما الذي ليس بعاجل؟ هنالك كمّ هائل من الأخبار العاجلة من هذا الجزء من العالم في السنوات الخمس الماضية، حتى صار المتابع لا يفرّق بين العاجل وغير العاجل. ولعل هذا يعود إلى أن هذا الشريط الأحمر صار يستخدم لنقل أخبار لم تعد أخباراً عاجلة بالمعنى الذي كنّا نعرفه في السابق.
كل الأخبار عاجلة في يومنا الحاضر، فقد صارت هذه الكلمة تعني أن هذه الأخبار مهمة وحسب، فهل يمكننا إعادة تعريف ثقافة الأخبار العاجلة أم أن الأوان قد فات؟ كم يجب أن يموت من الناس حتى تصبح الأخبار عاجلة بما يكفي لوضعها على شريط الأخبار؟ لا يزال الجدل مستمراً حول هذه القضية لما تنطوي عليه من أبعاد أخلاقية. ويبدو أن الأمر قد بات خارج نطاق سيطرتنا، فأجهزة الهاتف المحمول والحواسيب اللوحية وشاشات التلفاز تعجّ بالإشعارات والتنبيهات والأضواء التي تدلّ على خبر عاجل بين لحظة وأخرى.
ومع ظهور أشكال جديدة من الإعلام التي تحتل أهمّية متزايدة في صناعة الأخبار، فإنه من الضروري الآن -أكثر من أي وقت مضى- أن نذكّر بعدة الصحفي التقليدية. فأقول: أبقِ ذهنك متيقظاً، استخدم الهاتف، واستفد من تطبيقات واتساب وفايبر وغيرهما من تطبيقات التواصل المتوفرة، وتواصل مع الناس المتواجدين في مكان الحدث أو قربه. هذه بالنسبة لي هي الطريقة الأكثر دقة وأمانة في نقل أي خبر. ولا شك أنّك تحتاج إلى طاقم ليعمل معك -صَغرَ أو كبر- ليكون في الموقع بأسرع وقت ممكن، فلا يمكن العمل من دون ذلك، سواء استخدم الطاقم كاميرا كبيرة أو استخدم الهاتف، فليس هذا ما يهمّ.. هذا عصر الأخبار التي ترد بشذرات صغيرة بحجم التغريدات، والمستقبل هنا.
في المحصّلة، إن أكثر الجوانب خطورة وأساسية في الصحافة بعد التأكد من مصداقية خبر ما؛ هو وضع الأمور في وجهتها الصحيحة، إذ لا بد من تقديم السياق ونقل القصة الإنسانية التي ترتبط بالخبر العاجل. لا أدري كيف سيكون شكل الأخبار بعد خمسين عاماً من الآن، هل سيكون لدينا حينها آلة الزمن التي تنقلنا فوراً إلى مكان الخبر، أم سنرسل طائرة بسرعة الصوت قادرة على حمل طاقم من مقرنا الرئيسي؟ لا أحد منّا يعرف الإجابة، ولكنّا في شبكة الجزيرة متأكدون دوماً من أمر واحد: أن قصة الإنسان ستبقى دوماً بؤرة اهتمامنا.