2021-11-18 02:04
إبراهيم حمودة-معهد الجزيرة للإعلام
ينظر البعض لمهنة الصحافة على أنها مهنة فردية بامتياز، وأن الصحفي كائن مهموم بذاته ومنشغل بفتوحاته ونجاحه الشخصي، ويبدو أنها تخيلات تنقصها المعرفة بمطبخ الصحافة وطبيعة العمل الجماعي الجبار من أجل إخراج مادة صحفية؛ سواء أكانت مكتوبة أو مسموعة أو مرئية.
وسوء الفهم الآخر في مهنة الصحافة يتعلق بالتعددية الثقافية، والجغرافية (إن جاز التعبير)، والمعرفية داخل غرفة التحرير. وهو سوء فهم مهجر من حقل المجتمع والتراث المنتج داخله، الذي يعلي من شأن الوحدة والانسجام بصفتهما منبعين للقوة والكفاءة والجودة.
لكن طبيعة العالم تغيرت، ولم تعد قيم المجتمعات البسيطة الأولى تصلح لإدارة علاقات العمل داخل عالم يتوزع فيه موظفو الشركة الواحدة بين قارات العالم المختلفة، ومع ذلك يعملون ويتواصلون بشكل سلس وفعال من أجل إنجاز مهمتهم وتقديم منتجهم النهائي؛ سواء أكان سلعة أو خدمة.
في منتصف العام 2008 أعادت إذاعة هولندا العالمية خدمة البث باللغة العربية، واختيرت نخبة من الناطقين بها لاستهلال البث الإذاعي. كنا مجموعة متنوعة في خلفياتها الدراسية وفي الانتماء الجغرافي؛ شبابا من العراق، ولبنان، وسوريا، والمغرب، وتونس، والجزائر، وليبيا، والسودان.
بحسب سوء الفهم السائد، أو التصور السلبي الشائع عن روح التعاون بين العرب (على المستوى السياسي تحديدا)، يحق للمرء أن يتصور أن مثل هذا الفريق سيقضي يومه في الخلاف والشجار حول كل شيء فيما يتعلق باتخاذ القرارات داخل هيئة التحرير، خاصة أن مجال الصحافة هو مجال خيارات ووجهات نظر واختلاف في زوايا التناول.
ولكن حين أنظر للخلف لتلك الفترة، أراها من أجمل الفترات في حياتي المهنية من جهة الاستمتاع بالعمل وكَمّ الخبرات والمعرفة التي اكتسبتها من خلال العمل داخل هذا الفريق المتنوع.
لست هنا بصدد امتداح زملائي القدامى بالقسم العربي في إذاعة هولندا الدولية، بل بتقديم تشريح للعناصر التي كانت تحكم عملنا، والتي أسهمت في تطوير قدراتنا في اتخاذ القرارات وتصريف المهام اليومية للعمل الإذاعي بشكل سلس وفعال.
الوجود في الغرب عموما وفي بلد مثل هولندا خصوصا، يؤثر في الفرد على الصعيدين الخاص والعملي. ذلك أن المباشرة في إبداء الرأي دون المقدمات الطويلة والالتواءات كانت من الخصائص التي لا نعرفها في ثقافة مجتمعاتنا التي ننحدر منها، وقد ننظر للشخص المختلف في طرح وجهة نظره على أنه شخص عدواني أو فظ. استغرق تعلم هذه المهارة بعض الوقت والكثير من قدرة المعايشة وتفهم الآخر؛ بحيث يكون الموضوع مثار النقاش هو الأساس، وتكون العواطف والانفعالات الشخصية المصاحبة أمرا ثانويا قليل الأهمية.
ولأن موضوعنا هو تأثير التنوع على القرار التحريري، أشير إلى أن الأمر لا يتعلق فقط بتنوع الخلفيات الجغرافية والثقافية فحسب، ولكن كذلك بالخلفيات الدراسية والأكاديمية للمجموعة التي تتوزع بين التخصص في اللغة العربية والتاريخ مرورا بالصحافة والمسرح والعلوم السياسية. هذا العامل كان بمثابة مخزون معرفي متكامل استفدنا منه في الإجابة عن الأسئلة الصغيرة والكبيرة التي تواجه الصحفي في عمله اليومي والقرارات الفردية والجماعية التي يتم اتخاذها.
إن الاستعانة بزميل يتوفر على خلفية أكاديمية مختلفة يعطيه الإحساس بالأهمية بصفته فردا داخل الفريق، ويعزز الثقة بين الطرفين ويصب في النهاية في صالح تقديم منتج بجودة أعلى. كان يحدث ذلك في الغالب الأعم أثناء الانشغال بعملنا: زميل ضليع في اللغة العربية ومسائل النحو والصرف نستعين به للتدقيق في محتوى النصوص قبل إرسالها بشكلها النهائي للنشر، وبمرور الزمن كان هذا الزميل هو السلطة الفعلية المعترف بها بشكل صامت بين الجميع، وتوكل إليه عملية مراجعة النصوص قبل إخراجها في صورتها النهائية.
لا يجب أن يُنظَر إلى التنوع بصفته مفهوما ثابتا، بل ينبغي النظر إليه على أنه ضرورة لتطوير عمل الفريق وجعله أكثر مهنية ودقة. هذه التفاصيل الصغيرة التي أتعرض إليها تعود لما يعرف بديناميكا الفريق، التي تحوي مسائل أساسية غير ظاهرة للعيان؛ من مثل الإحساس بالأمان داخل الفريق. الإحساس بالأمان يسمح بارتكاب الأخطاء والتعلم منها ويسمح بتقبل النقد والمبادرة بانتقاد الذات إذا لزم الأمر.
التنوع مهم، ولكن...
الفريق المتنوع جغرافيا وثقافيا يكون أكثر عرضة للمشاحنات وسوء الفهم المؤجج لها، وما يبطل مفعول مثل هذا التشاحن هو الطبيعة الإدارية الأفقية التي كانت تحكم عملنا بصفتنا فريقا متساويا في الحقوق والواجبات والدرجات الوظيفية، وليست هناك مناصب فرعية يتطلع إليها الشخص؛ هناك فريق، وهناك رئيس للتحرير.
توجد الكثير من العوامل المحيطة بعملية الممارسة الصحفية يمكن أن نضعها في خانة البنية التحتية؛ من مثل المكان وطريقة ترتيبه وإمكانية التواصل العفوي بين الزملاء أثناء العمل؛ ففي غرفة تحرير مفتوحة بمساحة معقولة، يمكن لأي مجموعة تحويل النقاش بينها إلى اجتماع عفوي دون التسبب في إزعاج الآخرين. هكذا يكون التنوع مفيدا.
أما فيما يتعلق بالمحتوى الصحفي وعلاقته بالجغرافيا السياسية، فالأمر يخضع باستمرار لنقاشات مستمرة تطرح من خلالها العديد من الأسئلة التي تفتح العديد من الخيارات. لنفترض، مثلا، أن حدثا بعينه وقع في مصر، هل نتركه ليعالج من قبل صحفي مصري، أم أن الأفضل تكليف زميل من بلد آخر لمعالجة الموضوع أو الخبر؟ وهل التوتر بين البلدين يؤثر على خيارات الصحفيين المنتمين لهذين البلدين؟ ثمة توترات أيضا بين الجزائر والمغرب، أو السودان ومصر حول مياه النيل، فهل نعهد لصحفي مصري بتناول هذا الموضوع، أم أن الأفضل أن نوكل الأمر لصحفي لا علاقة له بالبلدين؟
هذه التساؤلات لا تنفي ولا تطعن في احترافية الصحفي ونزاهته المهنية، ولكن عوامل مثل الانتماء الجغرافي (إلى دولة ما كوحدة سياسية) يمكن أن تلقي بظلالها على المعالجة الصحفية حتى وإن لم يقصد الصحفي ذلك.
هناك أمر آخر يتعلق بالحساسيات في استخدام تسميات أو مصطلحات بعينها، مثلا: هل نستخدم تسمية الصحراء المغربية أم الصحراء الغربية؟ إن وجود صحفي مغربي ضمن الفريق يوفر فرصة جيدة للنقاش حول جذور الحساسيات السياسية المختلفة وإمكانية تلافيها باستخدام التسميات التي لا تثير حفيظة طرف من الأطراف.
تنسحب هذه الإشكالات على الترجمات أيضا. في إذاعة هولندا، درج القسم العربي على ترجمة بعض القطع المهمة التي تُنتَج بواسطة هيئات تحرير لغات أخرى داخل الإذاعة مثل الفرنسية، والإسبانية... إلخ. وكما هو معلوم تختلف لغة الترجمة بين المشرق والمغرب الكبير؛ فكلمة "مسطرة" تعني منظومة في المغرب أو مجموعة حسب علمي، وكلمة المخزن تعني المنتسبين للديوان الملكي أو النخبة الحاكمة، فإذا استُخدِمَت في سياق ترجمة ما، قد لا يفهمها المتلقون في أرجاء جغرافية أخرى غير المغرب.
لذلك، فإن وجود هيئة تحرير متنوعة يسهم، وبشكل يومي، في تمحيص المحتوى وإعادة صياغته بشكل مستمر كي يناسب الشرائح الأعرض من الناطقين بالعربية.
حساسية الجغرافيا لا تقتصر على طبيعة الموضوع فقط، ولكن تتعداها إلى مسألة الخيار بشأن معالجة قضية ما أو إهمالها؛ كأن يتم التغافل عن مسألة حقوق الإنسان في مصر بشكل مستمر والتركيز على انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية أو الخليج، أو التركيز على الخسائر التي يسببها طيران التحالف في اليمن وتجاهل انتهاكات جيش الحوثي مثلا..
إن احتمال تناول المواضيع بطريقة غير متوازنة واردة جدا، لكن داخل فريق متعدد الجنسيات ومدرك لهذه الحساسيات، يتم تحقيق قدر كبير من التوازن في تناول مختلف القضايا داخل الوطن العربي وخارجه. لكن في المقابل، سيكون الأمر مختلفا تماما، لو أن فريق التحرير تهيمن عليه فئة من الصحفيين تعود خلفيتها لبلد واحد أو إقليم واحد داخل نطاق الوطن العربي.
أريد أن أسجل في هذا السياق أن التنوع في غرفة التحرير لا ينحصر فقط في الانتماء الجغرافي، ولكن تلعب الانتماءات السياسية والمذهبية والقناعات الفكرية، أيا كانت، دورها في إثراء التفاعل بين الزملاء وإعطاء بعد أعمق لحواراتهم؛ السني والشيعي يختلفان في خطابهما وطريقة النظر للكثير من القضايا ذات الطابع السياسي والديني، وكذلك الليبرالي والمنتمي للإسلام السياسي يختلفان في طرائق تفكيرهما وتناولهما للقضايا.
بناء عليه، يمكننا القول إن العنصر الأكثر أهمية في عمل فريق متنوع هو العناية بما يعرف بالأثر المرتد (Feedback)، وفتح باب التعليق والحوار حول القصص الخبرية داخل القسم، بحيث يصبح التنوع في التخصص وفي الخبرات وفي الانتماء لبلد ما، عامل إثراء يدعم ويعزز من جودة المادة المنتجة.
قد تبدو مسألة التعليق وتبادل الآراء حول المواد الصحفية المنتجة مثالية بعض الشيء؛ ففي عالم حقيقي يغضب البعض، ويحس البعض الآخر بالاستهداف، خاصة في وجود أصحاب الذوات المتضخمة الذين لا يقبلون أدنى ملاحظة حول أعمالهم، ولكن فرصة تعلم طرق جديدة في التواصل وتربية الذات على تقبل الرأي الآخر هي من الصفات الأساسية التي لا يستطيع أي صحفي أداء مهنته وواجبه دونها.
هل نخلص إلى أن التعددية في غرفة التحرير عامل حاسم في اتخاذ القرار التحريري، أم هي عامل إثراء داخل المؤسسة الصحفية المعنية؟
الجواب عن هذا السؤال يستلزم تأمل وإدراك أن لحظة تلاقي أفراد وجماعات ينتمون لتخصصات وثقافات وانتماءات إثنية مختلفة، هي لحظة الحاجة للهوية بصفتها عامل ثبات وطمأنينة في مواجهة الآخر المجهول. يحدث هذا بشكل عفوي وفي ظروف متباينة؛ مثل ظرف السكن والرياضة والدراسة، ووسط جماعات قد تصغر أو تكبر، أو حتى بين فرد في مواجهة آخر.
والهوية في فكرتها غير مضيافة كما يقولون، أي إنها وُجدت كي تميز شخصا عن آخر ومجموعة عن أخرى وشعبا عن آخر.
ولحل هذه المعضلة وتوجيهها بحيث تكون عامل قوة وثراء، لا بد من تبني هوية جديدة هي هوية مكان العمل، وهي في هذه الحالة المؤسسة الصحفية التي يشتغل فيها فريق التحرير. للإنسان بالطبع عدة هويات بداخله؛ من مثل هوية النوع، أو العمر، أو المهنة، أو الهواية... إلخ، ولكن هوية المؤسسة تصير هي الأهم في ظرف العمل بحيث تتراجع بقية الهويات أثناء الانشغال بأداء المهنة.
كي يتحقق هذا الانصهار في المؤسسة، يجب أن تتحقق نظم المؤسسة الصحفية وتقاليدها المتوارثة غير المكتوبة، وانسجام معاييرها الأخلاقية والقانونية مع القانون العام والمبادئ الأساسية التي تحفظ حرية الإنسان وكرامته وتصون حقوقه الأساسية.
إذا تحقق هذا الشرط، تتوفر داخل المؤسسة الطمأنينة اللازمة التي تجعل الزملاء يثقون في بعضهم ويتبادلون الآراء في جو صحي شفاف ومفتوح يخلو من الخوف والمحاذير والتخوفات الأخرى غير المنتجة.